المعلوم أن تلك الذات لا تنفك عن ثبوت تلك الصفة وسلبها ، وإذا ثبت أن ثبوتها وسلبها موقوف على الغير ، (والموقوف على الموقوف على الشيء ، موقوف على الغير يلزم أن تكون تلك الصفة المخصوصة موقوفة على الغير) (١) وكل ما كان موقوفا على الغير ، كان ممكنا لذاته ، فيلزم أن يكون الواجب لذاته ممكنا لذاته. وذلك خلف باطل. فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الوجه. وهو جيد.
الحجة الرابعة : أن نقول إذا علم الله في الأزل أن العالم معدوم في الحال. فإذا أوجده وعلم أنه موجود في الحال. فهل زال العلم (الأول) (٢). أو ما زال؟ والثاني باطل. وإلا لكان قد حصل العلم بأنه معدوم في الحال ، وبأنه موجود في الحال ، وذلك يوجب الجهل ، ويوجب الجمع بين الاعتقادين المتنافيين. وأنه محال. وأما القسم الأول ، وهو أنه زال العلم الأول. فنقول : ذلك العلم إما أن يقال : إنه كان قديما أو محدثا. والأول باطل. لأن المتكلمين اتفقوا على أن ما ثبت قدمه ، فإنه يمتنع عدمه ، والدلائل الكثيرة أيضا ناطقة بذلك. والثاني : وهو أن ذلك العلم حادث. فنقول : هل كان ذلك العلم مسبوقا بعلم آخر أو ما كان مسبوقا به؟ فإن كان مسبوقا بعلم آخر كان الكلام في ذلك العلم السابق كالكلام في هذا العلم فيفضي إلى أن يكون كل علم حادث : مسبوقا بعلم آخر حادث. وذلك يوجب القول بحوادث لا أول لها ، وهو عند المتكلمين باطل. وإن قلنا : إن تلك العلوم تنتهي إلى علم حادث لا يكون مسبوقا بعلم آخر ، كان هذا قولا بتجهيل الله تعالى ، وذلك محال.
أجاب جهم بن صفوان ، وهشام بن الحكم عن هذا الكلام. فقالا : العلم الذي كان حاصلا في الأزل هو العلم بالماهيات والحقائق والتصورات ، ثم لما أحدث الأشياء في ما لا يزال ، فقد حدثت التصديقات ، وهي الحكم بأن كذا قد وجد ، وبأن كذا قد عدم ، وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل.
واعلم أنا قد ذكرنا في أول هذه الحجة أنهم قالوا : لو كان تعالى عالما بأن
__________________
(١) من (س).
(٢) من (س).