فعلم الله تعالى بذاته المخصوصة ، يوجب كونه عالما بالأمور التي بها حصل ذلك التشخص ، وذلك التعين. فوجب أن يكون عالما بذلك التشخص من حيث إنه هو ، فيثبت أن قولهم : العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول ، يوجب عليهم الاعتراف بكونه تعالى عالما بالأشخاص من حيث إنها تلك الأشخاص المعينة (١).
الحجة الثالثة في إثبات كونه تعالى عالما بالجزئيات المعينة : هو أن العلم بالأشياء صفة مدح وكمال والجهل بها صفة نقصان ، والله تعالى أكمل الموجودات وأجلها ، فوجب أن يكون وصفة بصفات الكمال والجلال أولى من وصفه بصفات النقصان.
الحجة الرابعة : إنا نرى أهل الدنيا ، الصديق والزنديق ، والموحد والملحد ، إذا وقعوا في بلية أو محنة ، فإنهم يتضرعون إلى الله تعالى ، ويطلبون منه أن يخلصهم من تلك البلية ، ولو أنه كان من أشد الناس إنكار لكونه تعالى عالما بالجزئيات ، فإنه إذا وقعت له هذه الحالة المذكورة ، فلا بد وأن يقدم على الدعاء والتضرع والخضوع. وهذا يدل على أن الفطرة الأصلية شاهدة بأن إله العالم قادر على المقدورات ، عالم بالأسرار والخفيات. ومعلوم أن شهادة أصل الفطرة أقرب إلى القبول من هذه التقسيمات الخفية ، والمطالب الغامضة ، فوجب القطع بأن إله العالم عالم بالجزئيات ، قادر على دفع الحاجات ، وأظن أن قول إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ لأبيه : «يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ، ولا يغنى عنك شيئا» (٢)؟ إنما كان لأجل أن أباه كان على دين الفلاسفة ، وكان ينكر كونه تعالى قادرا ، وينكر كونه تعالى عالما بالجزئيات ، فلا جرم خاطبه بذلك الخطاب. وهذا ما عندي في هذه المسألة. والله أعلم.
__________________
(١) المعينة (س).
(٢) مريم ٤٢.