الأول : إن المخير بين شرب القدحين ، وأكل الرغيفين ، فإنه يختار أحدهما على الآخر ، لا لمرجح ، وكذلك الهارب من السبع الضاري إذا وصل إلى موضع يتشعب منه طريقان متساويان من جميع الوجوه ، فإنه يختار أحدهما دون الثاني ، من غير أن يحصل بسبب ذلك الترجيح منفعة زائدة ، أو يندفع بسببه مضرة زائدة ، وهاهنا حصلت الإرادة من غير أن يحصل معها جلب النفع ، أو دفع الضرر.
والثاني : إن المريض قد يشتهي تناول الفاكهة جدا ، مع أنه لا يأكلها ويحترز عنها ، فههنا ميل الطبع قائم والإرادة غير حاصلة ، والرجل الزاهد العابد قد يريد إقامة الصلوات والعبادات مع أنه لا يشتهي الإقدام عليها ، لما فيها من المتاعب والمشاق بها. فههنا الإرادة حاصلة مع أن ميل الطبع غير حاصل. فظهر بهذا : الفرق بين ميل الطبيعة وبين الإرادة.
قالت الفلاسفة : أما قولكم : الإرادة صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر من غير وجوب ، ومن غير تأثير كلام مشكل من وجهين (١) :
الأول : أن هذا الكلام يقتضي إثبات مؤثر يؤثر لا على سبيل الوجوب ، وحينئذ تعود المباحث المذكور في باب تأثير القادر. وذلك لأن المؤثر إما أن يكون مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة في المؤثرية. وإما أن لا يكون. فإن كان الأول وجب ترتب الأثر عليه ، فيكون ذلك المؤثر مؤثرا على سبيل الوجوب ، لا على سبيل الصحة ، وإن كان الثاني كان ترتب الأثر عليه ممتنعا فيكون ذلك ممتنع التأثير ، لا ممكن التأثير (٢) (فعلمنا أن الشيء إما أن يكون واجب التأثير أو ممتنع التأثير ، فأما أن يكون ممكن التأثير) (٣) فهذا غير معقول ، وتمام تقرير هذا البحث قد سبق ذكره في باب القادر.
والثاني : هب أنا إذا عقلنا وجود مؤثر يؤثر على سبيل الصحة ـ إلا أن
__________________
(١) وجوه [الأصل]
(٢) لا يمكن التأثير (م ، س).
(٣) من (م).