وأما قوله ثانيا (١) : إن المريض قد يشتهي أكل الفاكهة ثم لا يريد أكلها ، والزاهد العابد قد يريد الطاعات والعبادات ، مع أنه لا يشتهيها فنقول : هذا أيضا مغالطة. وذلك لأن المريض يميل طبعه إلى تحصيل اللذات الحاصلة في الحال بسبب أكل الفاكهة ، وينفر طبعه عن الآلام التي تحصل بسبب ذلك الأكل في الزمان المستقبل ، فراعى مراتب المنفعة والمضرة ، فإن كان جانب اللذة والمنفعة راجحا في خياله على جانب الألم والمضرة ، أقدم على الأكل ، وإلا تركه ، فيثبت أن الحامل والداعي هاهنا ليس إلا طلب المنفعة (ودفع) (٢) المضرة إلا أن اللذة الحاصلة بسبب الأكل (حاضرة) (٣) في الحال ، والألم الحاصل بسبب ذلك الأكل مستقبل.
وقد ذكرنا في باب «الدواعي والصوارف» (٤) : أن النقد خير من النسيئة بسبب كونه نقدا لا نسيئة ، إلا أن النسيئة قد تكون أعظم حالا من النقد ، بسبب القوة والكثرة ، فتصير راجحة على النقد ، فإن قضى الفكر والخيال بترجح أحد الجانبين حصل الرجحان (لا محالة) (٥) ، وإن لم يقص فيه بالترجيح ، بل بقي مضطربا فيه ، لا جرم يصير مضطربا في الفعل والترك. وهذا هو الجواب بعينه عن قولهم الزاهد العابد قد يريد الطاعات الشاقة ، مع أنه لا يميل طبعه إليها ، فإنا نقول تلك الطاعات مؤلمة في الحال ، ولكنها نافعة في المستقبل فالألم نقد ، والمنفعة نسيئة إلا أن تلك المنافع بحسب الجبلة عظيمة ، وتلك المضار قليلة ، فيقع الخاطر هاهنا في باب المعارضة والترجيح (فثبت بما ذكرنا) (٦) : أنا لا نعرف البتة من معنى الإرادة والكراهية إلا ميل الطبع إلى جلب المنافع وميله إلى دفع المضار ، ولما كان ذلك في حق الله تعالى ممتنعا كان إثبات الإرادة في حقه غير معقول. وهذا تمام الكلام في البحث عن معنى الإرادة والكراهية.
__________________
(١) في ثانيا (م).
(٢) من (س).
(٣) من (س).
(٤) في الوجه الثامن.
(٥) من (س).
(٦) من (س).