بأن يشتغل بالشكر والثناء والخدمة والطاعة ، مع أنه في حق العبد محض الضرر ، والإله لا ينتفع به البتة.
فيثبت بما ذكرنا : أن حكم العقل في التحسين والتقبيح لو كان معتبرا في أفعال الله وأحكامه ، لقبحت هذه التكاليف ، وحيث لم يقبح شيء منها علمنا أن ذلك (باطل قطعا. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنما حسن تلك التكاليف لمنفعة) (١) عائدة إلى الشاكر والمطيع؟ وبيانه من وجوه :
الأول : إن تعظيم (٢) من لا يستحق التعظيم قبيح في العقول. فهو سبحانه إنما كلفهم حتى يصيروا بسبب إتيانهم بتلك الطاعات مستحقين للتعظيم ، فحينئذ يحسن منه تعالى أن يخصهم بأنواع التعظيم.
الثاني : إنه تعالى لو أعطاهم تلك المنافع بعد أن كانوا مستحقين لها ، كان ذلك ألذ وأكمل مما إذا حصلت تلك المنافع بمحض التفضل.
الثالث : لم لا يجوز أن يقال : إن إمكان حصول هذه السعادات الأخروية للبشر ، مشروط بإتيانهم بهذه العبادات ، على ما هو مذهب الحكماء. وذلك لأنهم قالوا : الإنسان إذا واظب على تحصيل هذه الشهوات البدنية واللذات الجسمانية فإنه تقوى رغبته فيها ، ويعظم ميله إلى تحصيلها ، فعند الموت يبقى ذلك الميل والرغبة مع العجز عن الوجدان ، فتعظم الآلام الروحانية. أما إذا امتنع عن تحصيل هذه اللذات ، وأقبل على ذكر الله ، وذكر الملائكة وذكر الدار الآخرة فإنه تفتر رغبته في الجسمانيات ، ويقوى ميله إلى الروحانيات ، فعند الموت يصير كأنه يتخلص من المكروه إلى المحبوب. ومن الحبس إلى البستان ، وهذا هو السبب في التكاليف بالطاعات والعبادات.
__________________
(١) من (م).
(٢) تعظيم قبيح (م).