البعض ، ورغب البعض في البعض على أقصى الوجوه ، ثم وضع عندهم كل ما يحتاجون إليه من الأطعمة والأشربة وحصل في قلوبهم شهوة أن يفجر بعضهم بالبعض ، وقوى تلك الشهوة ، وأزال الموانع. ثم يقول : إني إنما فعلت ذلك حتى يجتهد كل واحد منهم في منع نفسه عن تلك الشهوات ، حتى يستوجب مزيد الثواب والكرامة. ثم إنه يعلم علما يقينا أنه لا تحصل هذه العصمة والطهارة البتة ، وأن الحاصل ليس إلا الفجور والفسق ، فإن كل أحد يكذبه في دعواه ، ويقول له : إنك ما أردت إلّا فتح باب الفجور والشرور.
المثال الثالث : من دفع سكينا إلى عبده ، وعلم يقينا أنه متى دفع ذلك السكين إليه فإنه يقتل به ولده ، ثم إنه مع هذا اليقين ، يقول : إني إنما دفعت هذا السكين إليه ليقتل به عدوا لي (١). فإن كل أحد يكذبه ، ويقول : إنك لما علمت علما يقينا أنه لا يقتل بذلك السكين إلا ولدك ، ثم إنك دفعته إليه ، وأزلت عنه جميع الموانع من قتل ولدك. دل هذا على أنك كنت ساعيا في قتل ولدك.
المثال الرابع : من وقع في بئر ، فألقى إنسان إليه حبلا. ويعلم هذا الملقى يقينا أنه متى ألقى الحبل إليه ، فإنه يخنق بذلك الحبل نفسه. ثم إنه مع هذا اليقين ألقى ذلك الحبل إليه ، حكم كل أحد بأنه إنما ألقاه إليه ليقتل به نفسه.
المثال الخامس : قال محمد بن زكريا الرازيّ. في المناظرة الطويلة التي دارت بينه وبين الكعبي (٢) : إن رجلا لو علم ابنه السباحة حتى تمهر فيها ، ثم كلفه عبور نهر ، ليصل إلى موضع فيه دواء يشفيه من مرض به ، إلا أنه عالم بأن ابنه هذا سيمسك عن السباحة باختياره حتى يصير ذلك سببا لغرقه ، ثم إنه مع هذا العلم يأمر ولده بالسباحة ، ولم يمنعه منه أشد المنع ، فإنه يعد ذلك الأب عاق ، غير ناظر لذلك الولد. ولا مريدا للأمر الأصلح له.
__________________
(١) لله (س).
(٢) الكلبي (م).