ثم قال : فإن قيل : هذا ليس بمثال لفعل الله تعالى. وإنما المثال فيه : رجل له بنون وعلمهم السباحة ، ثم أمرهم أن يعبروا نهرا إلى بلدة فيها حاجتهم ليصيبوها ، وكان عالما بأن فيهم من يختار تغريق نفسه. فههنا لا يجب على ذلك الأب الناظر الرحيم أن يحرم الواصلين من أجل الهالكين.
ثم أجاب محمد بن زكريا ، فقال : إن هذا المثال لا يصح إلا بشرائط :
الأول : أن يكون هذا الأب ليس هو الذي أحوج أولئك الأولاد إلى طلب الشيء الذي لا يوجد إلا ما وراء النهر. أما لو كان هو الذي أحوجهم إلى ذلك الشيء ، ثم إنه يكلفهم العبور لوجدان ذلك الشيء كان هو الذي عرض ذلك الولد للتفريق. ومعلوم أن الله تعالى هو الذي خلق الحاجة والشهوة في قلوب الناس فلما أدخلهم دار الدنيا ، وكلفهم بالتكاليف الشاقة ، وبالامتناع عن المشتهيات اللذيذة ، مع علمه تعالى بأنهم لا يتركونها ، بل يقدمون عليها ويصيرون مستحقين للعقاب الشديد ، بسبب إقدامهم عليها ، كان في الحقيقة هو الذي ألقاهم في تلك المحنة.
والشرط الثاني : أن يكون الأب غير عالم علما يقينا بأن ولده يسعى في تغريق نفسه، فإنه لو علم ذلك يقينا فإنه يصح (١) منه أمر ذلك الولد بالعبور. والله سبحانه كان عالما علما يقينا مبرأ عن الشك بأن الكافر يسعى في تغريق نفسه بسبب كفره.
الشرط الثالث : أن يكون ذلك الأب (٢) عاجزا عن أن يخص بذلك التكليف أولئك الذين يعلم من حالهم أنهم يصلون إلى المصلحة والخير ، فلأجل هذه الضرورة يأمر الكل بالعبور ، أما الله سبحانه فهو قادر على أن يخلق الذين يعلم من حالهم أنهم يطيعون ولا يخلق أحدا من الذين يعلم من حالهم أنه لو خلقهم لكفروا به ، واستوجبوا العقاب العظيم.
__________________
(١) من المحتمل أن الكلمة لا يصح.
(٢) الإنسان (س).