ولا يجد من عقله البتة حسن ذم تلك الآجرّة ، فيثبت أن حسن المدح والذم مقرر في العقول، مركوز في القلوب.
وليس لقائل أن يقول : إن هذه الأحكام تثبت بالشرع ، وذلك لأن حسن هذه الأحوال وقبحها مقرر في عقل من لم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. ولو كان هذا الحكم مستفادا من الشرائع ، لكان الدهري والبرهمي ، وجب أن لا يحصل في عقولهما هذه الأحكام وحيث علمنا بالضرورة حصول هذه الأحكام في عقول جميع الخلق ، علمنا أن هذا الحكم غير مأخوذ من الشريعة.
وأيضا : إذا رأينا العقلاء يذمون على بعض الأحوال ويمدحون على بعضها. فإذا سألناهم وقلنا لهم : لم مدحتم هذا وذممتم ذاك؟ قالوا : إن هذا احسن إلينا ، وذاك أساء إلينا. وهذا يدل على أنهم كما علموا ببديهة العقل حسن المدح والذم فكذلك علموا ببديهة العقل ، أن المقتضى لحسن ذلك المدح هو الإحسان ، وإن المقتضى لحسن ذلك الذم هو الإساءة ، فيثبت بهذه التنبيهات : أن هذه الأحكام مقررة في بداءة العقول. (وهذا هو الوجه الأول) (١)
الوجه الثاني : في بيان أن العلم بثبوت الحسن والقبح علم بديهي : أنا إذا فرضنا إنسانا دهريا ينكر الإله والنبوة ، وفرضنا أنه كان مارّا في صحراء خالية عن الناس ، فاتفق أنه عبر على إنسان أعمى ، ورآه في نوع من أنواع البلاء ، مشرفا على الهلاك ، فإنه قد يرق قلبه عليه ، ويحمله عقله على الإحسان إليه. فههنا رغبته في الإحسان إليه ليست لطلب الجزاء ، فإن ذلك الرجل فقير ، وليس لأجل الطمع في الثناء. لأن ذلك الرجل أعمى لا يعرفه ، ولم يحضر هناك إنسان آخر ، حتى يقال : إنه يروي تلك الواقعة ليمدحه سائر الناس ، وليس أيضا لأجل الطمع (في تحصيل الثواب) (٢) لأن ذلك الإنسان دهريّ ، منكر للإله والنبوة والمعاد. فلما حصلت الرغبة العظيمة في الإحسان
__________________
(١) زيادة.
(٢) من (س).