داعي الحكمة : السعي في إيصال الخير إلى الغير. إذا عرفت هذا فنقول : إن التجربة تدل على أن السعي في إيصال النفع إلى النفس. وفي دفع الضرر عن النفس يمكن حصوله مع عدم السعي في اتصال النفع إلى الغير ، وفي دفع الضرر عن الغير من غير أن يكون المقصود منه السعي في إيصال النفع إلى النفس ودفع الضرر عن النفس. فهذا مما (١) يثبت عندنا جوازه بالدليل. وتقريره : أن الواحد منا إذا أحسن إلى المريض الأعمى في الصحراء الخالية مع كون ذلك المحسن دهريا ، منكرا للثواب والعقاب ، فله فيه أغراض ومنافع.
أحدها : أنه إذا أتى بذلك العمل ، صار هو عند نفسه ، موصوفا بصفة حميدة. وهي كونه محسنا إلى المحتاجين. وإذا لم يأت بذلك الإحسان ، فإنه يكون عند نفسه موصوفا بالقسوة والغلظة وعدم الرحمة. فالحامل له على ذلك الفعل : تحصيل صفة الكمال لنفسه ، ودفع صفة النقص عن نفسه.
وثانيها : ما ذكرناه في الفصل المتقدم أنه يدفع بذلك الفعل عن قلبه ألم الرقة الجنسية.
وثالثها : إنه لما رأى ذلك الفعل خاليا للمدح والثناء في أكثر الصور. والنادر يلحق بالغالب في الخيال والوهم صارت هذه الصورة ملحقة بذلك الغالب. فأما لو قدرنا انتفاء هذا الأحوال الثلاثة ، فإنا لا نعرف أن ذلك الرجل يحسن إلى ذلك الفقير الأعمى ، بل ربما فعل ، وربما لم يفعل. فيثبت بما ذكرنا : أنه لم يثبت عندنا في الشاهد نوع آخر من الدواعي ، سوى القسم الذي سميتموه بداعية الحاجة. فاما القسم الذي سميتموه بداعية الإحسان ، فلم يثبت بالدليل وجوده في الشاهد البتة.
قالت المعتزلة : هاهنا دليل يدل على صحة هذا القسم. وهو : أنه قد ثبت أن العالم محدث ، وكل محدث فله محدث. فالعالم محدث. ومحدث العالم ليس بجسم ، فوجب أن لا تصح عليه الحاجة. إذا ثبت هذا فنقول : فاعل
__________________
(١) في (م) مما لم يثبت عنده جوازه إلا بالدليل.