يسوغ القول إن فصول هذه السورة نزلت في فترات متفاوتة وإنها ألفت على الوجه الذي رتبت آياتها أو فصولها عليه تأليفا بعد أن نزلت جميع فصولها بل وربما بعد أن نزل كثير من السور والفصول المدنية الأخرى.
ولقد أثر حديث عن زيد بن ثابت (رضي الله عنه) أخرجه الحاكم ووصف بأنه بسند صحيح على شرط الشيخين ـ وزيد هو الذي تولّى عمل تدوين المصحف بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوسلم والذي كان من كتّاب وحي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ جاء فيه «كنا نؤلف القرآن من الرقاع» وقد علق البيهقي على ذلك بقوله : يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلىاللهعليهوسلم (١). مما فيه توضيح لما قلناه في صدد تأليف فصول هذه السورة بعد أن تكامل نزولها في ظروف متباعدة. وهذا يصدق على كل السور المدنية الطويلة على ما سوف ننبه عليه في مناسباتها ، حيث يبدو أن ظروف العهد المدني كانت تقتضي أن تدون فصول القرآن النازلة فيه متفرقة لأنها مواضيع متنوعة نزلت في مناسبات مختلفة ثم تؤلف السور منها.
وطابع البدء والختام على مطلع سورة البقرة وخاتمتها بارز حتى ليسوغ القول إنهما وضعا ليكونا كالإطار للسورة. ولعل الفصل الأول من السورة كان أول فصول السورة نزولا في المدينة وأول فصول القرآن المدني نزولا ، مما قد يلهمه مضمونه فاعتبرت السورة من أجل ذلك في ترتيب النزول كأولى السور المدنية نزولا مثل سورة العلق التي اعتبرت في ترتيب النزول كأولى سور القرآن المكي نزولا لأن آياتها الخمس الأولى دون بقيتها هي أول القرآن نزولا.
ولقد أثر حديث عن النبي صلىاللهعليهوسلم جاء فيه : «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش» (٢) وحديث آخر جاء فيه : «إنّ ملكا نزل من السماء فقال للنبي صلىاللهعليهوسلم :
__________________
(١) انظر الإتقان للسيوطي ج ١ ص ٦٠.
(٢) انظر تفسير ابن كثير للآيات الأخيرة من سورة البقرة ، وهذا الحديث ورد في التاج برواية مسلم عن ابن عباس أيضا. انظر التاج ج ٤ ص ١٣ و ١٤.