السادسة فعقد النبي صلىاللهعليهوسلم بينه وبينهم صلحا زالت به هذه الحالة ، ولو كانت الآيات بسبيل الأمر بالاستمرار إلى أن يسلموا لما وقع ذلك كما هو المتبادر.
ومن الجدير بالذكر أن كلمة (الفتنة) واشتقاقاتها قد تكررت في القرآن بمعان عديدة غير أنها لم تأت بمعنى الشرك بصراحة أو دلالة واضحة. وقد جاءت بخاصة بمعنى إجبار المسلمين على الارتداد عن دينهم مثل آية سورة البروج هذه : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠)) وآية سورة النحل هذه : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)) وهذا المعنى هو المقصود فيما نعتقد في الآيات وبه يتضح معنى الجملة (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) في الآية [١٩١] أي أن إجبار المسلمين على الارتداد عن دينهم بخاصة في الشهر الحرام والمسجد الحرام هو أشد نكاية من القتل والقتال وأشد خرقا لحرمة الشهر الحرام والمسجد الحرام وأكثر تبريرا للقتال فيهما. حتى لو سلمنا جدلا أن الآية تأمر بقتال الأعداء حتى ينتهوا عن شركهم ويسلموا فإن ذلك يكون بالنسبة للأعداء الذين يقاتلون المسلمين والذين يحق للمسلمين أن يحددوا الشروط التي يكفون بها عنهم ولا يمكن أن يعني قتال كل مشرك بدءا حتى يسلم إذا لم يقاتل المسلمين مما أيدته وقائع السيرة النبوية تأييدا قاطعا ، وقد قلنا (ولو سلمنا جدلا) للمساجلة وحسب. وفي صلح النبي صلىاللهعليهوسلم للمشركين المسمى بصلح الحديبية دليل قاطع على أن الجملة لم تكن تعني إيجاب قتال المشركين والكفار حتى يسلموا.
ولقد قال المفسرون (١) : إن التحديدات والشروط الواردة في الآيات قد نسخت بآيات أخرى جاءت في سورة التوبة وأمرت بقتال المشركين إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة مثل هذه الآية : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا
__________________
(١) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.