في نثر المعربين وشعرهم وكلامهم. ألا ترى أنهم يقولون «نفاق» ولا يقولون : منافقة ويقولون : مجاراة ومباراة ولا يقولون : جراء وبراء ، ويقولون مراسلة وملاعنة ، وقلّما تجد رسالا ولعانا. وهذا كله من خصائص هذه اللغة العريقة.
٦ ـ وقال تعالى : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) [الآية ١٧].
قالوا : معنى (جفاء) باطلا.
قال الفرّاء : أصله الهمزة ، والجفاء ، ما نفاه السّيل.
وجفأ الوادي : مسح غثاءه ، وقيل : الجفاء كما يقال الغثاء.
أقول : والجفاء بهذا المعنى من الكلم المفيد الذي حسن استعماله في لغة التنزيل.
٧ ـ وقال تعالى : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) [الآية ١٨].
والمراد ب (الحسنى) الجزاء الحسن.
والحسنى ضدّ السّوأى ، وهو مصدر كالنّعمى والبؤسى وغيرهما.
وقد يكون أصل هذا المصدر الصفة ، فهو مؤنّث أحسن ، مثل أعلى وعليا ، وأقصى وقصيا ، ثم حوّله الاستعمال الكثير الى المصدر كتحوّل العافية والعاقبة الى المصدر ، وأصلهما اسم الفاعل.
وهذا كلّه من سعة هذه العربية التي تفنّن بها أهل اللّسن والفصاحة.
٨ ـ وقال تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) (٢٦).
أقول : والمعنى : وما الحياة الدنيا في جنب نعيم الآخرة إلّا شيء يسير كعجالة الراكب ، وهو ما يتعجّله من تميرات ، أو شربة سويق ، أو نحو ذلك (١).
وقوله تعالى : (فِي الْآخِرَةِ) ضرب من الإيجاز الجميل ، والمعنى كما أشرنا من قول الزمخشريّ.
ثم إنّ جعل الحياة الدنيا متاعا ، إشارة الى أن نعيمها زائل ، وأنها لا تدوم ، وأنها تافهة قليلة الغناء كغلّة المتاع الذي يتزوّد به المسافر ، وهو بلغة يتبلّغ بها مدة سفره. وما زال «المتاع» زاد الراكب والمسافر في عصرنا ، وإن أخذ يزول بسبب من تقدّم
__________________
(١). «الكشاف» ٢ / ٥٢٨.