والبيّنات التي جاءوا بها قومهم ، وأكدّوا بها شرعهم. لأن بذلك يتم لهم السلطان عليهم والتدبير لهم ، وقد سمّوا السلطان يدا في كثير من المواضع ، فقالوا : ما لفلان على فلان يد ، أي سلطان. ويقولون : قد زالت يد فلان الأمير إذا عزل عن ولايته ، بمعنى زال سلطانه عن رعيته. ويقولون : أخذت هذا الأمر باليد ، أي بالسلطان. فالحجج التي جاء بها الأنبياء أممهم قد تسمّى أيديا على ما ذكرناه ، فلما وصف الكفار على هذا التأويل بأنهم ردّوا أيدي الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ في أفواههم ، كان المراد بذلك ردّ حججهم من حيث جاءت ، وطريق مجيئها أفواههم ؛ فكأنهم ردّوا عليهم أقوالهم ، وكذّبوا دعواهم.
وفي هذا التأويل بعد وتعسّف ، إلا أننا ذكرناه لحاجتنا إليه ، لمّا ذهبنا مذهب من حمل قوله سبحانه : (بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) على الاستعارة لا على الحقيقة.
فإذا حملت الآية على حقيقة الأيدي التي هي الجوارح كان المراد بها مختلفا فيه. فمن العلماء من قال : المراد بذلك أنهم كانوا يعضّون أناملهم تغيظا على الرسل عليهمالسلام ، كما يفعل المغيظ المحنق ، والواجم المفكّر.
وقال بعضهم : المراد بذلك أن المشركين أومئوا إلى أفواه الأنبياء ، بالتسكيت لهم ، والقطع لكلامهم.
وقال بعضهم : بل المراد بذلك ضرب من الهزء يفعله المجّان والسفهاء ، إذا أرادوا الاستهزاء ببعض الناس ، وقصدوا الوضع منه ، والإزراء عليه. فيجعلون أصابعهم في أفواههم ويتبعون هذا الفعل بأصوات تشبهه وتجانسه ، يستدل بها على قصد السخف ، وتعمد الفحش. وهذا عندي بعيد من السداد ، وغيره من الأقوال أولى منه بالاعتماد.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك أن الكفار كانوا إذا بدأ عليهم الرسل بالكلام سدّوا بأيديهم أسماعهم دفعة ، وأفواههم دفعة ، إظهارا منهم لقلة الرغبة في سماع كلامهم وجواب مقالهم ، ليدلّوهم ـ بهذا الفعل ـ على أنهم لا يصغون لهم إلى مقال ، ولا