يقول : من يأتيه عذاب يخزيه حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إليهم ، ومن هو صادق إليه.
قلنا : القياس ما ذكرت ، ولكنهم لما كانوا يدعونه كاذبا قال : ومن هو كاذب ، يعني في زعمكم ودعواكم تجهيلا لهم.
فإن قيل : لم قال تعالى (إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) [الآية ١٠٢] والقرى لا تكون ظالمة ، لأن الظلم من صفات من يعقل ، أو من صفات الحيوان دون الجماد؟
قلنا : هو من الإسناد المجازي ، والمراد به أهلها ، كما قال تعالى في موضع آخر (أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) [النساء / ٧٥] لكن لما أمن اللبس أسند الظلم الى القرية لفظا ، كما في قوله تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف / ٨٢].
فإن قيل : كيف التوفيق بين قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [الآية ١٠٥] وقوله سبحانه : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [النحل / ١١١] وقوله عزوجل (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٣٦) [المرسلات] فإن الآية الثالثة تناقض الآية الأولى بنفي الإذن ، وتناقض الآيتين جميعا بنفي النطق؟
قلنا : أمّا التوفيق بين الآيتين ، الأوليين فظاهر ، لأن المعنى تجادل عن نفسها بإذنه فتوافقت الآيتان ، وأما الآية الثالثة فإنها لا تناقض الآية الاولى بنفي الإذن ، إن قلنا إنّ الاستثناء من النفي ليس بإثبات ، لأنّ الآية الاولى لا تقتضي وجود الإذن حينئذ ، بل تقتضي نفي الكلام عند انتفاء الإذن ؛ فأما إن قلنا إن الاستثناء من النفي إثبات ناقضت الآية الثالثة الأولى ، ولا تناقض الآيتين بنفي النطق ، لأن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف ومواطن ، ففي بعضها يكفّون عن الكلام فلا يؤذن لهم فيه ، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلّمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلّم أيديهم وتشهد أرجلهم ، وهذا جواب عام عن مثل هذه الآيات ، ويرد على هذا أن يقال قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) (٣٥) نفى النطق عنهم يوم القيامة ، ما يوجب انتفاءه في جميع أجزاء ذلك الزمان عملا بعموم النفي ، كما يعم النفي جميع أجزاء المكان في قولنا ، لا وجود لزيد في الدار ، فاندفع الجواب باختلاف المواقف والمواطن ؛