الذين طلبوا نزول الملائكة عليهم ليشهدوا لهم بصدق الرسول صلىاللهعليهوسلم عند ما يرونهم عند الموت أو عند الحساب يقولون لهم بفزع وهلع : «حجرا محجورا» أى : حراما محرما عليكم أن تنزلوا بنا العذاب ، فنحن لم نرتكب ما نستحق بسببه هذا العذاب المهين ، ولعل مما يشهد لهذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ، بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (١).
وعلى كلا الرأيين فالجملة الكريمة تؤكد سوء عاقبة الكافرين.
ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك وعيدا آخر لهؤلاء الكافرين فقال : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً).
والهباء : الشيء الدقيق الذي يخرج من النافذة مع ضوء الشمس شبيها بالغبار.
والمنثور : المتفرق في الجو بحيث لا يتأتى جمعه أو حصره.
أى : وقدمنا وقصدنا وعمدنا ـ بإرادتنا وحكمتنا إلى ما عمله هؤلاء الكافرون من عمل صالح في الدنيا ـ كالإحسان إلى الفقراء ، والإنفاق في وجوه الخير ـ فجعلناه باطلا ضائعا ، ممزقا كل ممزق ، لأنهم فقدوا شرط قبوله عندنا ، وهو إخلاص العبادة لنا.
فقد شبه ـ سبحانه ـ أعمالهم الصالحة في الدنيا في عدم انتفاعهم بها يوم القيامة ـ بالهباء المنثور ، الذي تفرق وتبدد وصار لا يرجى خير من ورائه لحقارته وتفاهته.
ثم بين ـ سبحانه ـ ما سيكون عليه أصحاب الجنة من نعيم مقيم يوم القيامة فقال : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً).
والمستقر : المكان الذي يستقر فيه الإنسان في أغلب وقته. والمقيل : المكان الذي يؤوى إليه في وقت القيلولة للاستراحة من عناء الحر.
أى : «أصحاب الجنة يومئذ» أى : يوم القيامة «خير مستقرا» أى : خير مكانا ومنزلا في الجنة ، مما كان عليه الكافرون في الدنيا من متاع زائل ، ونعيم حائل «وأحسن مقيلا» أى : وأحسن راحة وهناء ومأوى ، مما فيه الكافرون من عذاب مقيم.
وقد استنبط بعض العلماء. من هذه الآية أن حساب أهل الجنة يسير ، وأنه ينتهى في وقت قصير ، لا يتجاوز نصف النهار. قالوا : لأن قوله ـ تعالى ـ (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) يدل على
__________________
(١) سورة النحل الآيتان ٢٨ ، ٢٩.