قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) وحكاه في البحر عن ابن عباس. والمشهور عنه ما تقدم ، ولعل المراد ما ذكر فيه من الأدلة على كمال قدرته ـ تعالى ـ (١).
ويبدو لنا أن أقرب الأقوال إلى الصواب هو القول الأول ، لأن سياق الحديث عن المطر النازل من السماء بقدرة الله ـ تعالى ـ ولأن هذا القول هو المأثور عن جمع من الصحابة والتابعين ، كابن عباس ، وابن مسعود وعكرمة ، ومجاهد وقتادة .. وغيرهم.
وقوله ـ تعالى ـ : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) بيان لموقف أكثر الناس من نعم الله ـ تعالى ـ. أى : أنزلنا المطر ، وصرفناه بين الناس ليعتبروا ويتعظوا ، فأبى أكثرهم إلا الجحود لنعمنا ، ومقابلتها بالكفران ، وإسنادها إلى غيرنا ممن لا يخلقون شيئا وإنما هم عباد لنا ، وخلقنا.
وفي صحيح مسلم أن الرسول صلىاللهعليهوسلم قال يوما لأصحابه بعد نزول المطر من السماء : «أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. فقال صلىاللهعليهوسلم : «قال ربكم ، أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكواكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب» (٢).
ـ والنوء ـ بتشديد النون وفتحها وسكون الواو : سقوط نجم في المغرب مع الفجر ، وطلوع آخر يقابله من ساعته بالمشرق.
وقال ـ سبحانه ـ : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ ..). لمدح القلة المؤمنة منهم ، وهم الذين قابلوا نعم الله ـ تعالى ـ بالشكر والطاعة.
ثم ذكر ـ سبحانه ـ ما يدل على رفعة منزلة نبيه صلىاللهعليهوسلم فقال : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً). أى : ولو شئنا لبعثنا في زمنك ـ أيها الرسول الكريم ـ في كل قرية من القرى نذيرا ينذر أهلها بسوء عاقبة الكفر والجحود ، ويكون عونا لك على تحمل أعباء الرسالة التي أرسلناك بها ... ولكنّا لم نشأ ذلك تكريما لك وتعظيما لقدرك ، حيث خصصناك بعموم الرسالة لجميع الناس. وما دام الأمر كذلك «فلا تطع الكافرين» فيما يريدونه منك من أمور باطلة فاسدة «وجاهدهم به» أى : بهذا القرآن ، عن طريق قراءته والعمل بما فيه ، وبيان ما اشتمل عليه من دلائل وبراهين على صحة دعوتك.
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ٣٢.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٢٥.