وقوله ـ تعالى ـ : (جِهاداً كَبِيراً) مؤكد لما قبله. أى : جاهدهم بالقرآن جهادا كبيرا مصحوبا بالإغلاظ عليهم تارة ، وبإبطال شبهاتهم وأراجيفهم تارة أخرى.
قال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته ـ عزوجل ـ.
و «مرج» من المرج بمعنى الإرسال والتخلية ، ومنه قولهم. مرج فلان دابته إذا أرسلها إلى المرج وهو المكان الذي ترعى فيه الدواب ، ويصح أن يكون من المرج بمعنى الخلط ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أى : مختلط. ومنه قيل للمرعى : مرج ، لاختلاط الدواب فيه بعضها ببعض.
والعذب الفرات : هو الماء السائغ للشرب ، الذي يشعر الإنسان عند شربه باللذة ، وهو ماء الأنهار وسمى فراتا لأنه يفرت العطش ، أى يقطعه ويكسره ويزيله.
والملح الأجاج : هو الشديد الملوحة والمرارة وهو ماء البحار. سمى أجاجا من الأجيج وهو تلهب النار ، لأن شربه يزيد العطش.
والبرزخ. الحاجز الذي يحجز بين الشيئين.
أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي أرسل البحرين. العذب والمالح في مجاريهما متجاورين ، كما ترسل الدواب في المراعى. أو جعلهما ـ بقدرته ـ في مجرى واحد ومع ذلك لا يختلط أحدهما بالآخر : بل جعل ـ سبحانه ـ بينهما «برزخا» أى : حاجزا عظيما ، وحجرا محجورا.
أى : وجعل كل واحد منهما حراما محرما على الآخر أن يفسده.
والمراد : لزوم كل واحد منهما صفته التي أوجده الله عليها ، فلا ينقلب العذب في مكانه ملحا ، ولا الملح في مكانه عذبا.
قال ـ تعالى ـ : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) (١).
وقال ـ سبحانه ـ : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً ، وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً ، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ ، وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً ، أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢).
__________________
(١) سورة الرحمن الآيتان ١٩ ، ٢٠.
(٢) سورة النمل الآية ٦١.