واسم الإشارة (تِلْكَ) يعود إلى التربية المفهومة من قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً ..). إلخ.
وقوله (تَمُنُّها) من المن بمعنى الإنعام يقال : منّ فلان على فلان منة إذا أنعم عليه بنعمة. وعبدت : أى : اتخذتهم عبيدا لك تسخرهم لخدمتك.
قال الجمل : و (تِلْكَ) مبتدأ ، و (نِعْمَةٌ) خبر. و (تَمُنُّها) صفة للخير و (أَنْ عَبَّدْتَ) عطف بيان للمبتدأ موضح له.
وهذا الكلام من موسى ـ عليهالسلام ـ يرى بعضهم أنه قاله على وجهة الاعتراف له بالنعمة ، فكأنه يقول له : تلك التربية التي ربيتها لي نعمة منك على ، ولكن ذلك لا يمنع من أن أكون رسولا من الله ـ تعالى ـ إليك ، لكي تقلع عن كفرك ، ولكي ترسل معنا بنى إسرائيل.
ويرى آخرون أن هذا الكلام من موسى لفرعون ، إنما قاله على سبيل التهكم به ، والإنكار عليه فيما امتن به عليه ، فكأنه يقول له : إن ما تمنّ به على هو في الحقيقة نقمة ، وإلا فأية منة لك علىّ في استعبادك لقومي وأنا واحد منهم ، إن خوف أمى من قتلك لي هو الذي حملها على أن تلقى بي في البحر ، وتربيتي في بيتك كانت لأسباب خارجة عن قدرتك ...
ويبدو لنا أن هذا الرأى أقرب إلى الصواب ، لأنه هو المناسب لسياق القصة ، ولذا قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآية : «ثم كر موسى على امتنان فرعون عليه بالتربية فأبطله من أصله ، واستأصله من سنخه ـ أى : من أساسه ـ ، وأبى أن يسمى نعمته إلا نقمة. حيث بين أن حقيقة إنعامه عليه تعبيد بنى إسرائيل ، لأن تعبيدهم وقصدهم بالذبح لأبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته ، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه ، وتذليلهم واتخاذهم خدما له ...» (١).
وبهذا الجواب التوبيخي أفحم موسى ـ عليهالسلام ـ فرعون. وجعله يحول الحديث عن هذه المسألة التي تتعلق بتربيته لموسى إلى الحديث عن شيء آخر حكاه القرآن في قوله : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) أى قال فرعون لموسى : أى شيء رب العالمين الذي أنت وأخوك جئتما لتبلغا رسالته لي ، وما صفته؟
وهذا السؤال يدل على طغيان فرعون ـ قبحه الله ـ وتجاوزه كل حد في الفجور ، فإن هذا السؤال يحمل في طياته استنكار أن يكون هناك إله سواه ، كما حكى عنه القرآن في آية أخرى
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٠٦.