ولكن هذه النصائح الغالية الحكيمة من الرجل الصالح لقومه ، لم تصادف أذنا واعية بل إن سياق القصة بعد ذلك ليوحى بأن قومه قتلوه ، فقد قال ـ تعالى ـ بعد أن حكى نصائح هذا الرجل لقومه ، (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ...).
أى : قالت الملائكة لهذا الرجل الصالح عند موته على سبيل البشارة : ادخل الجنة بسبب إيمانك وعملك الطيب.
قال الآلوسى : قوله : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ..) استئناف لبيان ما وقع له بعد قوله ذلك.
والظاهر أن الأمر المقصود به الإذن له بدخول الجنة حقيقة ، وفي ذلك إشارة إلى أن الرجل قد فارق الحياة ، فعن ابن مسعود أنه بعد أن قال ما قال قتلوه ..
وقيل : الأمر للتبشير لا للإذن بالدخول حقيقة ، أى : قالت ملائكة الموت وذلك على سبيل البشارة له بأنه من أهل الجنة ـ يدخلها إذا دخلها المؤمنون بعد البعث (١).
وقوله ـ تعالى ـ : (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) استئناف بيانى لبيان ما قاله عند البشارة.
أى : قيل له ادخل الجنة بسبب إيمانك وعملك الصالح ، فرد وقال : يا ليت قومي الذين قتلوني ولم يسمعوا نصحى ، يعلمون بما نلته من ثواب من ربي ، فقد غفر لي ـ سبحانه ـ ، وجعلني من المكرمين عنده ، بفضله وإحسانه ..
قال ابن كثير : ومقصوده ـ من هذا القول ـ أنهم لو اطلعوا على ما حصل عليه من ثواب ونعيم مقيم ، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل ، فرحمهالله ورضى عنه ، فلقد كان حريصا على هداية قومه.
روى ابن أبى حاتم أن عروة بن مسعود الثقفي ، قال للنبي صلىاللهعليهوسلم : ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام ، فقال له صلىاللهعليهوسلم «إنى أخاف أن يقتلوك» ، فقال : يا رسول الله ، لو وجدوني نائما ما أيقظونى. فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم «انطلق إليهم» فانطلق إليهم ، فمر على اللات والعزى فقال : لأصبحنك غدا بما يسوؤك ، فغضبت ثقيف فقال لهم : يا معشر ثقيف : أسلموا تسلموا ـ ثلاث مرات ـ. فرماه رجل منهم فأصاب أكحله فقتله ـ والأكحل : عرق في وسط الذراع ـ فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «هذا مثله كمثل صاحب يس (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٢).
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ٢٢٨.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٥٨.