وهنا ترد عليهم جوارحهم بقولها ـ كما حكى سبحانه عنها ـ (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ..).
أى : قالوا في الرد عليهم : أنطقنا الله ـ تعالى ـ الذي أنطق كل شيء بقدرته التي لا يعجزها شيء (وَهُوَ) ـ سبحانه ـ الذي (خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ولم تكونوا شيئا مذكورا.
(وَإِلَيْهِ) وحده (تُرْجَعُونَ) فيحاسبكم على أعمالكم ، ويحكم فيكم بحكمه العادل.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية عددا من الأحاديث ، منها ما جاء عن أنس ابن مالك ـ رضى الله عنه ـ قال : ضحك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذات يوم وتبسم فقال : «ألا تسألون عن أى شيء ضحكت»؟ قالوا : يا رسول الله ، من أى شيء ضحكت؟ قال : «عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة ، يقول : أى ربي ، أليس قد وعدتني أن لا تظلمني؟ قال : بلى. فيقول : فإنى لا أقبل على شاهدا إلا من نفسي. فيقول الله ـ تعالى ـ : أو ليس كفى بي شهيدا. وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال : فيردد هذا الكلام مرارا قال : فيختم على فيه ، وتتكلم أركانه بما كان يعمل. فيقول : بعدا لكن وسحقا ، فعنكن كنت أجادل» (١).
وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ، بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٢).
ثم حكى ـ سبحانه ـ ما يقال لهؤلاء الكافرين يوم القيامة من جهته ـ تعالى ـ أو من جهة جوارحهم التي شهدت عليهم فقال ـ تعالى ـ : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ، وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ).
وقوله : (تَسْتَتِرُونَ) من الاستتار بمعنى الاستخفاء ، «وما» نافية. وقوله : (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ ..) في موضع نصب على نزع الخافض أى : من أن يشهد عليكم .. أو مفعول لأجله.
أى : مخافة أو خشية أن يشهد عليكم سمعكم.
والمعنى : أن جوارحهم تقول لهم يوم القيامة على سبيل التبكيت : أنتم ـ أيها الكافرون ـ لم تكونوا في الدنيا تخفون أعمالكم السيئة ، خوفا من أن نشهد عليكم ولكنكم كنتم تخفونها
__________________
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١٥٩.
(٢) سورة يس الآية ٦٥.