(وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أى : وهذا القرآن عميت قلوبهم عن تدبره وعن الاهتداء به.
وقوله ـ تعالى ـ (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ذم شنيع لهم على إعراضهم عن هذا القرآن الذي ما أنزله الله ـ تعالى ـ إلا لإخراجهم من الظلمات إلى النور.
أى : أولئك الكافرون الذين لم ينتفعوا بالقرآن مثلهم في صممهم وانطماس بصائرهم ، كمثل من يناديه مناد من مكان بعيد ، فهو لا يسمع منه شيئا ، ولا يعقل عنه شيئا ، لوجود المسافة الشاسعة بين المنادى ، وبين من وقع عليه النداء.
قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يقال ذلك لمن لا يفهم من التمثيل.
وحكى أهل اللغة أنه يقال للذي يفهم : أنت تسمع من قريب ، ويقال للذي لا يفهم : أنت تنادى من بعيد أى : كأنه ينادى من موضع بعيد منه ، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه. وقال الضحاك : (يُنادَوْنَ) يوم القيامة بأقبح أسمائهم (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) فيكون ذلك لتوبيخهم وفضيحتهم .. (١).
ومن يتدبر هذه الآية الكريمة يرى مصداقها في كل زمان ومكان ، فهناك من ينتفع بهذا القرآن قراءة وسماعا وتطبيقا .. وهناك من يستمعون إلى هذا القرآن ، فلا يزيدهم إلا صمما ، ورجسا إلى رجسهم وعمى على عماهم.
ثم بين ـ سبحانه ـ زيادة في التسلية لرسوله صلىاللهعليهوسلم ، أن اختلاف الأمم في شأن ما جاء به الرسل شيء قديم فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ..).
أى : ولقد آتينا نبينا موسى ـ عليهالسلام ـ كتابه التوراة ليكون هداية ونورا لقومه ، فاختلفوا في شأن هذا الكتاب ، فمنهم من آمن به ، ومنهم من صد عنه.
(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) ـ أيها الرسول الكريم ـ وهي ألا يعذب المكذبين من أمتك في الدنيا عذابا يستأصلهم ويهلكهم.
لو لا ذلك (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أى : لأهلكهم كما أهلك السابقين من قبلهم.
(وَإِنَّهُمْ) أى : كفار قومك (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أى : لفي شك من هذا القرآن وريبة من أمره ، جعلهم يعيشون في قلق واضطراب.
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٧١.