هو الله عزوجل ، والأوّل أولى ، وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف. (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) المرّة : القوّة والشدّة في الخلق ، وقيل : ذو صحة جسم وسلامة من الآفات ، ومنه قول النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «لا تحلّ الصدقة لغنيّ ، ولا لذي مرّة سويّ (١)». وقيل : ذو حصافة عقل ومتانة رأي. قال قطرب : العرب تقول لكلّ من هو جزل الرأي حصيف العقل : ذو مرّة ، ومنه قول الشاعر :
قد كنت قبل لقاكم ذا مرّة |
|
عندي لكلّ مخاصم ميزانه |
والتفسير للمرّة بهذا أولى ؛ لأن القوّة والشدّة قد أفادها قوله : (شَدِيدُ الْقُوى) قال الجوهري : المرّة : إحدى الطبائع الأربع ، والمرّة : القوّة وشدّة العقل ، والفاء في قوله : (فَاسْتَوى) للعطف على علّمه ، يعني جبريل ، أي : ارتفع وعلا إلى مكانه في السماء بعد أن علم محمدا صلىاللهعليهوسلم ، قاله سعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير. وقيل : معنى استوى قام في صورته التي خلقه الله عليها ؛ لأنه كان يأتي النبي صلىاللهعليهوسلم في صورة الآدميين ، وقيل : المعنى : فاستوى القرآن في صدره صلىاللهعليهوسلم. وقال الحسن : فاستوى : يعني الله عزوجل على العرش (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) هذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي : فاستوى جبريل حال كونه بالأفق الأعلى ، والمراد بالأفق الأعلى : جانب المشرق ، وهو فوق جانب المغرب ، وقيل : المعنى : فاستوى عاليا ، والأفق : ناحية السماء ، وجمعه آفاق. قال قتادة ومجاهد : هو الموضع الّذي تطلع منه الشمس ، وقيل : هو يعني جبريل والنبيّ صلىاللهعليهوسلم بالأفق الأعلى ليلة المعراج ، ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة. (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) أي : دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى ، أي : قرب من الأرض ، فتدلّى ، فنزل على النبيّ صلىاللهعليهوسلم بالوحي ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : ثم تدلّى فدنا ، قاله ابن الأنباري وغيره ، قال الزجّاج : معنى دنا فتدلى واحد ، أي : قرب وزاد في القرب ، كما تقول : فدنا مني فلان وقرب ، ولو قلت : قرب مني ودنا جاز. قال الفراء : الفاء في «فتدلى» بمعنى الواو ، والتقدير : ثم تدلّى جبريل ودنا ، ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدا أن تقدّم أيهما شئت. قال الجمهور : والّذي دنا فتدلى هو جبريل ؛ وقيل : هو النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، والمعنى : دنا منه أمره وحكمه ، والأوّل أولى ، وقيل : ومن قال : إن الّذي استوى هو جبريل ومحمد ، فالمعنى عنده : ثم دنا محمد من ربه دنوّ كرامة فتدلى ، أي : هوى للسجود ، وبه قال الضحّاك. (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) أي : فكان مقدار ما بين جبريل ومحمد صلىاللهعليهوسلم ، أو ما بين محمد وربه قاب قوسين ، أي : قدر قوسين عربيين. والقاب والقيب ، والقاد والقيد : المقدار ، ذكر معناه في الصّحاح. قال الزجاج : أي : فيما تقدّرون أنتم ، والله سبحانه عالم بمقادير الأشياء ، ولكنه يخاطبنا على ما جرت به عادة المخاطبة فيما بيننا. وقيل «أو» بمعنى الواو ، أي : وأدنى ، وقيل : بمعنى بل ، أي : بل أدنى. وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحاق الهمداني وأبو وائل شقيق بن سلمة (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) قدر ذراعين ، والقوس : الذّراع يقاس بها كل شيء ، وهي لغة بعض الحجازيين ، وقيل : هي لغة أزد شنوءة. وقال الكسائي : «فكان قاب قوسين» أراد قوسا
__________________
(١). «السوي» : صحيح الأعضاء.