حكى الكسائي عن قوم أنهم قالوا : هو من المرارة ، وقيل : هو من المرّة بمعنى القوّة ، أي : في يوم قويّ الشؤم مستحكمه ؛ كالشيء المحكم الفتل الّذي لا يطاق نقضه ، والظاهر أنه من الاستمرار ، لا من المرارة ولا من المرّة ، أي : دام عليهم العذاب فيه حتى أهلكهم ، وشمل بهلاكه كبيرهم وصغيرهم ، وجملة (تَنْزِعُ النَّاسَ) في محل نصب على أنها صفة لريحا أو حال منها ويجوز أن يكون استئنافا ، أي : تقلعهم من الأرض من تحت أقدامهم اقتلاع النّخلة من أصلها. قال مجاهد : كانت تقلعهم من الأرض فترمي بهم على رؤوسهم ، فتدقّ أعناقهم ، وتبين رؤوسهم من أجسادهم ، وقيل : الناس من البيوت ، وقيل : من قبورهم ؛ لأنّهم حفروا حفائر ودخلوها (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) الأعجاز : جمع عجز ، وهو مؤخر الشيء ، والمنقعر : المنقطع المنقلع من أصله ، يقال : قعرت النخلة ؛ إذا قلعتها من أصلها حتى تسقط. شبّههم في طول قاماتهم حين صرعتهم الريح وطرحتهم على وجوههم بالنخل الساقط على الأرض التي ليست لها رؤوس ، وذلك أن الرّيح قلعت رؤوسهم أولا ، ثم كبّتهم على وجوههم. وتذكير منقعر مع كونه صفة لأعجاز نخل وهي مؤنثة اعتبارا باللفظ ، ويجوز تأنيثه اعتبارا بالمعنى كما قال : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (١) قال المبرد : كل ما ورد عليك من هذا الباب إن شئت رددته إلى اللفظ تذكيرا ، أو إلى المعنى تأنيثا. وقيل : إن النخل والنخيل يذكر ويؤنث (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) قد تقدّم تفسيره قريبا ، وكذلك قوله : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). ثم لما ذكر سبحانه تكذيب عاد أتبعه بتكذيب ثمود فقال : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) يجوز أن يكون جمع نذير ، أي : كذبت بالرّسل المرسلين إليهم ، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإنذار ، أي : كذبت بالإنذار الّذي أنذروا به ، وإنما كان تكذيبهم لرسولهم وهو صالح تكذيبا للرسل ؛ لأن من كذّب واحدا من الأنبياء فقد كذب سائرهم لاتفاقهم في الدعوة إلى كليات الشرائع (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) الاستفهام للإنكار ، أي : كيف نتبع بشرا كائنا من جنسنا منفردا وحده لا متابع له على ما يدعو إليه؟ قرأ الجمهور بنصب «بشرا» على الاشتغال ، أي : أنتبع بشرا واحدا؟ وقرأ أبو السّمّال أنه قرأ برفع : «بشرا» ونصب بالرفع على الابتداء ، وواحدا صفته ، ونتبعه خبره. وروي عن أبي السّمّال أنه قرأ برفع : «بشرا» ونصب «واحدا» على الحال. (إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ) أي : إنّا إذا اتبعناه لفي خطأ وذهاب عن الحق (وَسُعُرٍ) أي : عذاب وعناء وشدّة ، كذا قال الفراء وغيره. وقال أبو عبيدة : هو جمع سعير ، وهو لهب النار ، والسّعر : الجنون يذهب كذا وكذا لما يلتهب به من الحدّة. وقال مجاهد : «وسعر» وبعد عن الحق. وقال السدي : في احتراق ، وقيل : المراد به هنا الجنون ، من قولهم : ناقة مسعورة ، أي : كأنها من شدّة نشاطها مجنونة ، ومنه قول الشاعر يصف ناقة :
تخال بها سعرا إذ السّفر هزّها |
|
ذميل وإيقاع من السّير متعب |
ثم كرّروا الإنكار والاستبعاد ، فقالوا : (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) أي : كيف خصّ من بيننا بالوحي
__________________
(١). الحاقة : ٧.