والآجلة (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي : في الجنتين المذكورتين. قال الزجاج : وإنما قال فيهنّ ؛ لأنه عنى الجنتين وما أعدّ لصاحبهما فيهما من النعيم ، وقيل فيهنّ : أي في الفرش التي بطائنها من إستبرق. ومعنى (قاصِراتُ الطَّرْفِ) أنهنّ يقصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ لا ينظرن إلى غيرهم ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة الصافات (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) قال الفراء : الطمث : الافتضاض ، وهو النكاح بالتّدمية ، يقال : طمث الجارية : إذا افترعها. قال الواحدي : قال المفسرون : لم يطأهن ولم يغشهنّ ولم يجامعهنّ قبلهم أحد. قال مقاتل : لأنّهن خلقن في الجنة ، والضمير في «قبلهم» يعود إلى الأزواج المدلول عليه بقاصرات الطرف ، وقيل : يعود إلى متكئين ، والجملة في محل رفع صفة لقاصرات ؛ لأن إضافتها لفظية ، وقيل : الطمث : المسّ ، أي : لم يمسسهنّ ، قاله أبو عمرو. وقال المبرد : أي : لم يذللهنّ ، والطمث : التذليل ، ومن استعمال الطمث فيما ذكره الفراء قول الفرزدق :
وقعن إليّ لم يطمثن قبلي |
|
وهنّ أصحّ من بيض النّعام |
قرأ الجمهور : (يَطْمِثْهُنَ) بكسر الميم ، وقرأ الكسائي بضمها ، وقرأ الجحدري وطلحة بن مصرّف بفتحها ، وفي هذه الآية بل في كثير من آيات هذه السورة دليل أن الجنّ يدخلون الجنة إذا آمنوا بالله سبحانه وعملوا بفرائضه وانتهوا عن مناهيه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن في مجرّد هذا الترغيب في هذه النعم نعمة جليلة ومنّة عظيمة ، لأن به يحصل الحرص على الأعمال الصالحة والفرار من الأعمال الطالحة ، فكيف بالوصول إلى هذه النعم والتنعم بها في جنات النعيم بلا انقطاع ولا زوال (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) هذا صفة لقاصرات ، أو حال منهنّ ، شبههنّ سبحانه في صفاء اللون مع حمرته بالياقوت والمرجان ، والياقوت : هو الحجر المعروف ، والمرجان قد قدّمنا الكلام فيه في هذه السورة على الخلاف في كونه صغار الدرّ ، أو الأحمر المعروف. قال الحسن : هنّ في صفاء الياقوت وبياض المرجان ، وإنما خصّ المرجان على القول بأنه صغار الدرّ ؛ لأن صفاءها أشدّ من صفاء كبار الدرّ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن نعمه كلها لا يتيسر تكذيب شيء منها كائنة ما كانت ، فكيف بهذه النعم الجليلة والمنن الجزيلة؟ (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، والمعنى ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة ، كذا قال ابن زيد وغيره. قال عكرمة : هل جزاء من قال لا إله إلا الله إلا الجنة ، وقال الصادق : هل جزاء من أحسنت عليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه في الأبد. قال الرازي : في هذه الآية وجوه كثيرة ، حتى قيل : إن في القرآن ثلاث آيات في كل واحدة منها مائة قول ، إحداها قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (١) وثانيها (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) (٢) وثالثها (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ). قال محمد بن الحنفية : هي للبرّ والفاجر ، البرّ في الآخرة ، والفاجر في الدنيا (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن من جملتها الإحسان إليكم في الدنيا والآخرة بالخلق والرزق ، والإرشاد إلى العمل الصالح ، والزّجر عن العمل الّذي لا يرضاه
__________________
(١). البقرة : ١٥٢.
(٢). الإسراء : ٨.