من الآخر ، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك ، وكذا قال مقاتل وغيره ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : لا يستوي من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، فحذف لظهوره ولدلالة ما سيأتي عليه ، وإنما كانت النفقة والقتال بعد الفتح ؛ لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر ، وهم أقل وأضعف ، وتقديم الإنفاق على القتال للإيذان بفضيلة الإنفاق لما كانوا عليه من الحاجة ، فإنهم كانوا يجودون بأنفسهم ولا يجدون ما يجدون به من الأموال :
والجود بالنفس أقصى غاية الجود (١)
والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى «من» باعتبار معناها ، وهو مبتدأ وخبره (أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) أي : أرفع منزلة وأعلى رتبة من الذين أنفقوا أموالهم في سبيل الله من بعد الفتح وقاتلوا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قال عطاء : درجات الجنة تتفاضل ؛ فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها. قال الزجاج : لأن المتقدمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم ، وكانت بصائرهم أيضا أنفذ.
وقد أرشد صلىاللهعليهوسلم إلى هذه الفضيلة بقوله فيما صحّ عنه : لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» وهذا خطاب منه صلىاللهعليهوسلم للمتأخرين وصحبه كما يرشد إلى ذلك السبب الّذي ورد فيه هذا الحديث (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي : وكلّ واحد من الفريقين وعد الله المثوبة الحسنى ، وهي الجنة مع تفاوت درجاتهم فيها. قرأ الجمهور : «وكلا» بالنصب على أنه مفعول به للفعل المتأخر. وقرأ ابن عامر بالرفع على الابتداء ، والجملة بعده خبره والعائد محذوف ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، ومثل هذا قول الشاعر (٢) :
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي |
|
عليّ ذنبا كلّه لم أصنع |
(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) لا يخفى عليه من ذلك شيء. ثم رغّب سبحانه في الصدقة فقال : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي : من ذا الّذي ينفق ماله في سبيل الله ، فإنه كمن يقرضه ، والعرب تقول لكل من فعل فعلا حسنا قد أقرض ، ومنه قول الشاعر (٣).
وإذا جوزيت قرضا فاجزه |
|
إنّما يجزي الفتى ليس الجمل |
قال الكلبي (قَرْضاً) أي : صدقة (حَسَناً) أي : محتسبا من قلبه بلا منّ ولا أذى. قال مقاتل : حسنا طيبة به نفسه ، وقد تقدم تفسير الآية في سورة البقرة (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) قرأ ابن عامر وابن كثير «فيضعّفه» بإسقاط الألف ، إلا أن ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء. وقرأ نافع وأهل الكوفة والبصرة «فيضاعفه» بالألف وتخفيف العين ، إلا أن عاصما نصب الفاء ورفع الباقون. قال ابن عطية : الرّفع على العطف على يقرض ، أو الاستئناف والنصب لكون الفاء في جواب الاستفهام. وضعف النصب أبو علي
__________________
(١). وصدره : تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها. والبيت لمسلم بن الوليد.
(٢). هو لبيد.
(٣). هو لبيد.