والرهبانية بفتح الراء وضمها ، وقد قرئ بهما. وهي بالفتح الخوف من الرهب ، وبالضم منسوبة إلى الرهبان ، وذلك لأنهم غلوا في العبادة ، وحملوا على أنفسهم المشتقات في الامتناع من المطعم والمشرب والمنكح ، وتعلّقوا بالكهوف والصوامع ؛ لأن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي منهم نفر قليل فترهبوا وتبتّلوا ، ذكر معناه الضحاك وقتادة وغيرهما (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) بدلا من الهاء والألف في كتبناها ، والمعنى : ما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي : لم يرعوا هذه الرهبانية التي ابتدعوها من جهة أنفسهم ، بل صنعوها وكفروا بدين عيسى ، ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدّلوا وتركوا الترهب ؛ ولم يبق على دين عيسى إلا قليل منهم ، وهم المرادون بقوله : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) الّذي يستحقونه بالإيمان ، وذلك لأنهم آمنوا بعيسى وثبتوا على دينه حتى آمنوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم لما بعثه الله (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به ، ووجه الذمّ لهم على تقدير أن الاستثناء منقطع أنهم قد كانوا ألزموا أنفسهم الرهبانية معتقدين أنها طاعة وأن الله يرضاها ، فكان تركها وعدم رعايتها حق الرعاية يدلّ على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه دينا. وأما على القول بأن الاستثناء متصل ، وأن التقدير : ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله بعد أن وفّقناهم لابتداعها فوجه الذم ظاهر. ثم أمر سبحانه المؤمنين بالرسل المتقدمين بالتقوى والإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) بترك ما نهاكم عنه (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمد صلىاللهعليهوسلم (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي : نصيبين من رحمته بسبب إيمانكم برسوله بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل ، وأصل الكفل : الحظ والنصيب ، وقد تقدّم الكلام على تفسيره في سورة النساء (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) يعني على الصراط كما قال : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) (١) وقيل : المعنى : ويجعل لكم سبيلا واضحا في الدين تهتدون به (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ما سلف من ذنوبكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : بليغ المغفرة والرحمة (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) اللام متعلقة بما تقدّم من الأمر بالإيمان والتقوى ، والتقدير : اتقوا وآمنوا يؤتكم كذا وكذا ليعلم الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) و «لا» في قوله : (لِئَلَّا) زائدة للتوكيد ، قاله الفراء والأخفش وغير هما ، وأن في قوله : (أَلَّا يَقْدِرُونَ) هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، وخبرها ما بعدها ، والجملة في محل نصب على أنها مفعول يعلم ، والمعنى : ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على أن ينالوا شيئا من فضل الله الّذي تفضّل به على من آمن بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، ولا يقدرون على دفع ذلك الفضل الّذي تفضل الله به على المستحقين له ، وجملة (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) معطوفة على الجملة التي قبلها ، أي : ليعلموا أنهم لا يقدرون وليعلموا أن الفضل بيد الله سبحانه ، وقوله : (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) خبر ثان لأنّ ، أو هو الخبر ، والجارّ والمجرور في محل نصب على الحال (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها ، والمراد بالفضل هنا ما تفضّل به على الذين اتقوا وآمنوا برسوله من الأجر المضاعف. وقال الكلبي :
__________________
(١). التحريم : ٨.