وكرّر هذا للمبالغة والتأكيد ، وقيل : إن هذا نزل بعد الأوّل بمدّة (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) بدل من قوله «لكم» بدل بعض من كلّ ، والمعنى : أن هذه الأسوة إنما تكون لمن يخاف الله ويخاف عقاب الآخرة ، أو يطمع في الخير من الله في الدنيا وفي الآخرة (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي : يعرض عن ذلك ، فإن الله هو الغنيّ عن خلقه ، الحميد إلى أوليائه (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) وذلك بأن يسلموا فيصيروا من أهل دينكم ، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة ، وحسن إسلامهم ، ووقعت بينهم وبين من تقدّمهم في الإسلام مودّة ، وجاهدوا ، وفعلوا الأفعال المقرّبة إلى الله ، وقيل : المراد بالمودّة هنا تزويج النبيّ صلىاللهعليهوسلم بأمّ حبيبة بنت أبي سفيان. ولا وجه لهذا التخصيص ، وإن كان من جملة ما صار سببا إلى المودّة ، فإن أبا سفيان بعد ذلك ترك ما كان عليه من العداوة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولكنها لم تحصل المودّة إلا بإسلامه يوم الفتح وما بعده ، (وَاللهُ قَدِيرٌ) أي : بليغ القدرة كثيرها ، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : بليغهما ، كثيرهما. ثم لما ذكر سبحانه ما ينبغي للمؤمنين من معاداة الكفار وترك موادّتهم فصّل القول فيمن يجوز برّه منهم ومن لا يجوز ، فقال : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي : لا ينهاكم عن هؤلاء (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) هذا بدل من الموصول بدل اشتمال ، وكذا قوله : (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) يقال : أقسطت إلى الرجل ؛ إذا عاملته بالعدل. قال الزجاج : المعنى : وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي : العادلين ؛ ومعنى الآية : أن الله سبحانه لا ينهى عن برّ أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال ، وعلى أن لا يظاهروا الكفّار عليهم ، ولا ينهى عن معاملتهم بالعدل. قال ابن زيد : كان هذا في أوّل الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ، ثم نسخ. قال قتادة : نسختها : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) وقيل : هذا الحكم كان ثابتا في الصلح بين النبيّ صلىاللهعليهوسلم وبين قريش ، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم. وقيل : هي خاصة في حلفاء النبيّ صلىاللهعليهوسلم ومن بينه وبينه عهد ، قاله الحسن. وقال الكلبي : هم خزاعة وبنو الحارث ابن عبد مناف. وقال مجاهد : هي خاصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا ، وقيل : هي خاصة بالنساء والصبيان. وحكى القرطبي عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة. ثم بيّن سبحانه من لا يحلّ برّه ولا العدل في معاملته فقال : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) وهم صناديد الكفر من قريش (وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ) أي : عاونوا الذين قاتلوكم على ذلك ، وهم سائر أهل مكة من دخل معهم في عهدهم ، وقوله : (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بدل اشتمال من الموصول كما سلف (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي : الكاملون في الظلم ؛ لأنهم تولوا من يستحق العداوة لكونه عدوّا لله ولرسوله ولكتابه ، وجعلوهم أولياء لهم.
وقد أخرج ابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) قال : نهوا أن يتأسوا
__________________
(١). التوبة : ٥.