الكآبة ، وغشيتها الذّلّة ، يقال : ساء الشيء يسوء فهم سيّئ ؛ إذا قبح. قال الزجاج : المعنى تبيّن فيها السوء ، أي : ساءهم ذلك العذاب فظهر عليهم بسببه في وجوههم ما يدلّ على كفرهم كقوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (١). قرأ الجمهور بكسر السين بدون إشمام ، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وابن محيصن بالإشمام (وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي : قيل لهم توبيخا وتقريعا هذا المشاهد الحاضر من العذاب هو العذاب الّذي كنتم به تدّعون في الدنيا : أي تطلبونه وتستعجلون به استهزاء ، على أن معنى تدّعون الدعاء. قال الفراء : تفتعلون من الدعاء ، أي : تتمنون وتسألون ، وبهذا قال الأكثر من المفسرين. وقال الزجاج : هذا الّذي كنتم به تدّعون الأباطيل والأحاديث. وقيل : معنى تدّعون : تكذبون ، وهذا على قراءة الجمهور : «تدّعون» بالتشديد ، فهو إما من الدعاء كما قال الأكثر ، أو من الدعوى كما قال الزجاج ومن وافقه ، والمعنى : أنهم كانوا يدّعون أنه لا بعث ولا حشر ولا جنة ولا نار. وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق ويعقوب والضحاك : تدعون مخففا ، ومعناها ظاهر. وقال قتادة : هو قولهم : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) (٢) وقال الضحاك : هو قولهم : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) (٣) الآية. قال النحاس : تدّعون تدعون بمعنى واحد ، كما تقول : قدر واقتدر ، وعدى واعتدى ، إلا أنّ افتعل معناه مضى شيئا بعد شيء ، وفعل يقع على القليل والكثير (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ) أي : أخبروني إن أهلكني الله بموت أو قتل ، ومن معي من المؤمنين (أَوْ رَحِمَنا) بتأخير ذلك إلى أجل ، وقيل المعنى : إن أهلكني الله ومن معي بالعذاب ، أو رحمنا ، فلم يعذبنا (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي : فمن يمنعهم ويؤمنهم من العذاب. والمعنى : أنه لا ينجيهم من ذلك أحد سواء أهلك الله الرسول والمؤمنين معه كما كان الكفار يتمنونه ، أو أمهلهم. وقيل : المعنى ؛ إنا مع إيماننا بين الخوف والرجاء ، فمن يجيركم مع كفركم من العذاب ، ووضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالكفر ، وبيان أنه السبب في عدم نجاتهم (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ) وحده ، لا نشرك به شيئا (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) لا على غيره ، والتوكّل : تفويض الأمور إليه عزوجل (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) منا ومنكم ، وفي هذا تهديد شديد مع إخراج الكلام مخرج الإنصاف. قرأ الجمهور : «ستعلمون» بالفوقية على الخطاب. وقرأ الكسائي بالتحتية على الخبر ، ثم احتجّ سبحانه عليهم ببعض نعمه ، وخوّفهم بسلب تلك النعمة عنهم فقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي : أخبروني إن صار ماؤكم غائرا في الأرض بحيث لا يبقى له وجود فيها أصلا ، أو صار ذاهبا في الأرض إلى مكان بعيد بحيث لا تناله الدّلاء. يقال : غار الماء غورا ، أي : نضب ، والغور : الغائر ، وصف بالمصدر للمبالغة ، كما يقال رجل عدل ، وقد تقدم مثل هذا في سورة الكهف (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي : ظاهر تراه العيون ، وتناله الدّلاء ، وقيل : هو من معن الماء ، أي : كثر. وقال قتادة والضحاك : أي جار ، وقد تقدم معنى المعين في سورة المؤمن. وقرأ ابن عباس : «فمن يأتيكم بماء عذب».
__________________
(١). آل عمران : ١٠٦.
(٢). ص : ١٦.
(٣). الأنفال : ٣٢.