إليه مقامه ، روي هذا عن الأخفش أيضا. وقيل : المفتون : المعذّب ، من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته ، ومنه قوله : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١) وقيل : المفتون هو الشيطان ؛ لأنه مفتون في دينه ، والمعنى : بأيكم الشيطان. وقال قتادة : هذا وعيد لهم بعذاب يوم بدر ، والمعنى : سترى ويرى أهل مكة إذا نزل بهم العذاب ببدر بأيكم المفتون ، وجملة (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) تعليل للجملة التي قبلها ، فإنها تتضمن الحكم عليهم بالجنون لمخالفتهم لما فيه نفعهم في العاجل والآجل ، واختيارهم ما فيه ضرهم فيهما ، والمعنى : هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله الموصل إلى سعادة الدارين (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) إلى سبيله الموصل إلى تلك السعادة الآجلة والعاجلة ، فهو مجاز كلّ عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) نهاه سبحانه عن ممايلة (٢) المشركين ، وهم رؤساء كفار مكة ، لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه ، فنهاه عن طاعتهم ؛ أو هو تعريض بغيره عن أن يطيع الكفار ، أو المراد بالطاعة مجرد المداراة بإظهار خلاف ما في الضمير ، فنهاه الله عن ذلك ، كما يدل عليه قوله : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) فإن الادّهان : هو الملاينة والمسامحة والمداراة. قال الفرّاء : المعنى لو تلين فيلينوا لك ، وكذا قال الكلبي. وقال الضحاك والسدّي : ودّوا لو تكفر فيتمادوا على الكفر. وقال الربيع بن أنس : ودّوا لو تكذب فيكذبون. وقال قتادة : ودّوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك. وقال الحسن : ودّوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك. وقال مجاهد : ودّوا لو تركن إليهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيما يلونك. قال ابن قتيبة : كانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم مدّة ، ويعبدوا الله مدّة. وقوله : (فَيُدْهِنُونَ) عطف على تدهن ، داخل في حيز «لو» ، أو هو خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهم يدهنون. قال سيبويه : وزعم قالون أنها في بعض المصاحف «ودّوا لو تدهن فيدهنوا» بدون نون ، والنصب على جواب التمني المفهوم من ودّوا ، والظاهر من اللغة في معنى الادهان هو ما ذكرناه أوّلا (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) أي : كثير الحلف بالباطل (مَهِينٍ) فعيل من المهانة ، وهي القلة في الرأي والتمييز. وقال مجاهد : هو الكذاب. وقال قتادة : المكثار في الشرّ ، وكذا قال الحسن. وقيل : هو الفاجر العاجز ، وقيل : هو الحقير عند الله ، وقيل : هو الذليل ، وقيل : هو الوضيع (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) الهماز المغتاب للناس. قال ابن زيد : هو الّذي يهمز بأخيه ، وقيل : الهمّاز : الّذي يذكر الناس في وجوههم ، واللمّاز : الّذي يذكرهم في مغيبهم ، كذا قال أبو العالية والحسن وعطاء ابن أبي رباح ، وقال مقاتل عكس هذا. والمشاء بنميم : الّذي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم ، يقال : نمّ ينمّ ؛ إذا سعى بالفساد بين الناس ، ومنه قول الشاعر :
ومولى كبيت النّمل لا خير عنده |
|
لمولاه إلّا سعيه بنميم |
وقيل : النميم : جمع نميمة (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي : بخيل بالمال لا ينفقه في وجهه ، وقيل : هو الّذي يمنع أهله وعشيرته عن الإسلام. قال الحسن : يقول لهم من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا (مُعْتَدٍ
__________________
(١). الذاريات : ١٣.
(٢). «مايله» : مالأه.