تعاينها وتشاهد ما فيها من الأهوال فكأنها خارجة عن دائرة علم المخلوقين. قال يحيى بن سلام : بلغني أن كل شيء في القرآن (وَما أَدْراكَ) فقد أدراه إياه وعلمه ، وكلّ شيء قال فيه : (وَما يُدْرِيكَ) [فهو مما لم يعلمه. وقال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه : (وَما أَدْراكَ)] (١) فإنه أخبره به ، و «ما» مبتدأ ، وخبره «أدراك» ، و «ما الحاقة» جملة من مبتدأ وخبر محلها النصب بإسقاط الخافض ؛ لأن أدرى يتعدّى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله : (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة له كانت في موضع المفعول الثاني ، وبدون الهمزة يتعدى إلى مفعول واحد بالباء نحو : دريت بكذا ، وإن كان بمعنى العلم تعدّى إلى مفعولين ، وجملة «وما أدراك» معطوفة على جملة «ما الحاقة». (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) أي : بالقيامة ، وسمّيت بذلك لأنها تقرع الناس بأهوالها. وقال المبرّد : عنى بالقارعة القرآن الّذي نزل في الدنيا على أنبيائهم ، وكانوا يخوّفونهم بذلك فيكذبونهم ، وقيل : القارعة مأخوذة من القرعة لأنها ترفع أقواما وتحطّ آخرين ، والأوّل أولى ، ويكون وضع القارعة موضع ضمير الحاقة للدلالة على عظيم هولها وفظاعة حالها ، والجملة مستأنفة لبيان بعض أحوال الحاقة (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) ثمود : هم قوم صالح ، وقد تقدّم بيان هذا في غير موضع وبيان منازلهم وأين كانت ، والطاغية الصيحة التي جاوزت الحدّ ، وقيل : بطغيانهم وكفرهم ، وأصل الطغيان : مجاوزة الحدّ (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) عاد : هم قوم هود ، وقد تقدّم بيان هذا ، وذكر منازلهم وأين كانت في غير موضع ، والريح الصرصر : هي الشديدة البرد ، مأخوذ من الصرّ وهو البرد ، وقيل : هي الشديدة الصوت. وقال مجاهد : الشديدة السموم ، والعاتية : التي عتت عن الطاعة ؛ فكأنها عتت على خزّانها فلم تطعهم ، ولم يقدروا على ردّها لشدّة هبوبها ، أو عتت على عاد ؛ فلم يقدروا على ردّها ، بل أهلكتهم (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ) هذه الجملة مستأنفة لبيان كيفية إهلاكهم ، ومعنى سخّرها : سلّطها ، كذا قال مقاتل ، وقيل : أرسلها. وقال الزجاج : أقامها عليهم كما شاء ، والتسخير : استعمال الشيء بالاقتدار ، ويجوز أن تكون هذه الجملة صفة لريح ، وأن تكون حالا منها لتخصيصها بالصفة ، أو من الضمير في عاتية ، (وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) معطوف على سبع ليال ، وانتصاب (حُسُوماً) على الحال ، أي : ذات حسوم ، أو على المصدر بفعل مقدّر ، أي : تحسمهم حسوما ، أو على أنه مفعول به ، والحسوم : التتابع ، فإذا تتابع الشيء ولم ينقطع أوّله عن آخره قيل له : الحسوم. قال الزجاج : الّذي توجبه اللغة في معنى قوله حسوما ، أي : تحسمهم حسوما : تفنيهم وتذهبهم. قال النضر بن شميل : حسمتهم : قطعتهم وأهلكتهم. وقال الفراء : الحسوم : التّباع ، من حسم الداء وهو الكيّ ، لأن صاحبه يكوى بالمكواة ، ثم يتابع ذلك عليه ، ومنه قول أبي داود (٢) :
يفرّق بينهم زمن طويل |
|
تتابع فيه أعواما حسوما (٣) |
__________________
(١). من تفسير القرطبي (١٨ / ٢٥٧)
(٢). في تفسير القرطبي : عبد العزيز بن زرارة الكلابي.
(٣). في تفسير القرطبي :
ففرّق بين بينهم زمان |
|
تتابع فيه أعوام حسوم |