الكافر فاستهزاء وسخرية. قال الرازي : ويحتمل أنهم يسألون الرسول ويقولون : ما هذا الّذي يعدنا به من أمر الآخرة ، والموصول في محل جرّ صفة للنبأ بعد وصفه بكونه عظيما ، فهو متّصف بوقوع الاختلاف فيه (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) ردع لهم وزجر ، وهذا يدل على أن المختلفين فيه هم الكفار ، وبه يندفع ما قيل إن الخلاف بينهم وبين المؤمنين ، فإنه إنما يتوجه الردع والوعيد إلى الكفار فقط ، وقيل : «كلا» بمعنى حقا ، ثم كرّر الردع والزجر فقال : (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) للمبالغة في التأكيد والتشديد في الوعيد. قرأ الجمهور بالياء التحتية في الفعلين على الغيبة. وقرأ الحسن وأبو العالية وابن دينار وابن عامر في رواية عنه بالفوقية على الخطاب. وقرأ الضحاك الأوّل بالفوقية والثاني بالتحتية. قال الضحاك : أيضا (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم ، وقيل : بالعكس ، وقيل : هو وعيد بعده وعيد ، وقيل : المعنى (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) عند النزع ، (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) عند البعث. ثم ذكر سبحانه بديع صنعه وعظيم قدرته ليعرفوا توحيده ويؤمنوا بما جاء به رسوله فقال : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ـ وَالْجِبالَ أَوْتاداً) أي : قدرتنا على هذا الأمور المذكورة أعظم من قدرتنا على الإعادة بالبعث. والمهاد : الوطاء والفراش كما في قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) (١) قرأ الجمهور : «مهادا» وقرأ مجاهد وعيسى وبعض الكوفيين «مهدا» والمعنى : أنها كالمهد للصبي وهو ما يمهد له فينوّم عليه. والأوتاد جمع وتد ، أي : جعلنا الجبال أوتادا للأرض لتسكن ولا تتحرك كما ترسى الخيام بالأوتاد ، وفي هذا دليل على أن التساؤل الكائن بينهم هو عن أمر البعث ، لا عن القرآن ، ولا عن نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم كما قيل ؛ لأن هذا الدليل إنما يصلح للاستدلال به على البعث (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) معطوف على المضارع المنفي داخل في حكمه ، فهو في قوّة : أما خلقناكم ، والمراد بالأزواج هنا الأصناف ، أي : الذكور والإناث ، وقيل : المراد بالأزواج الألوان ، وقيل : يدخل في هذا كلّ زوج من المخلوقات من قبيح وحسن وطويل وقصير (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي : راحة لأبدانكم. قال الزجّاج : السبات أن ينقطع عن الحركة والروح في بدنه ، أي : جعلنا نومكم راحة لكم. قال ابن الأنباري : جعلنا نومكم قطعا لأعمالكم ؛ لأن أصل السبت القطع ، وقيل : أصله التمدّد ، يقال : سبتت المرأة شعرها ؛ إذا حلّته وأرسلته ، ورجل مسبوت الخلق : أي ممدودة ، والرجل إذا أراد أن يستريح تمدّد ، فسمّي النوم سباتا ، وقيل : المعنى : وجعلنا نومكم موتا ، والنوم أحد الموتتين ، فالمسبوت يشبه الميت ولكنه لم تفارقه الروح ، ومنه قول الشاعر (٢) :
ومطويّة الأقراب أمّا نهارها |
|
فسبت وأمّا ليلها فذميل (٣) |
__________________
(١). البقرة : ٢٢.
(٢). هو حميد بن ثور.
(٣). «السبت» : السير السريع. «الذميل» : السير اللين. استشهد القرطبي بهذا البيت بعد أن قال : سير سبت : أي سهل لين.