ومن هذا قوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (١) الآية ، وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) (٢) (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) أي : نلبسكم ظلمته ونغشيكم بها كما يغشيكم اللباس. وقال سعيد بن جبير والسدّي : أي سكنا لكم ، وقيل : المراد به ما يستره عند النوم من اللحاف ونحوه ، وهو بعيد ؛ لأن الجعل وقع على الليل ، لا على ما يستتر به النائم عند نومه (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) أي : وقت معاش ، والمعاش : العيش ، وكلّ شيء يعاش به فهو معاش ، والمعنى : أن الله جعل لهم النهار مضيئا ليسعوا فيما يقوم به معاشهم وما قسمه الله لهم من الرزق (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) يريد سبع سماوات قوية الخلق محكمة البناء ، ولهذا وصفها بالشدّة وغلظ كلّ واحدة منها مسيرة خمسمائة عام ، كما ورد ذلك (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) المراد به الشمس ، وجعل هنا بمعنى خلق ، وهكذا قوله : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) وما بعده ؛ لأن هذه الأفعال قد تعدّت إلى مفعولين فلا بدّ من تضمينها معنى فعل يتعدّى إليهما كالخلق والتصيير ونحو ذلك. وقيل : إن الجعل بمعنى الإنشاء والإبداع في جميع هذه المواضع ، والمراد به الإنشاء التكويني الّذي بمعنى التقدير والتسوية. قال الزجّاج : الوهاج : الوقاد ، وهو الّذي وهج ، يقال : وهجت النار تهج وهجا ووهجانا. قال مقاتل : جعل فيه نورا وحرّا ، والوهج يجمع النور والحرارة (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) المعصرات : هي السحاب التي تنعصر بالماء ولم تمطر بعد ، كالمرأة المعتصرة التي قد دنا حيضها ، كذا قال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك. وقال مجاهد ومقاتل وقتادة والكلبي : هي الرياح ، والرياح تسمى معصرات ، يقال : أعصرت الريح تعصر إعصارا ؛ إذا أثارت العجاج. قال الأزهري : هي الرياح ذوات الأعاصير وذلك أن الرياح تستدرّ المطر. وقال الفرّاء : المعصرات : السحائب التي يتحلّب منها المطر. قال النحاس : وهذه الأقوال صحاح ، يقال للريح التي تأتي بالمطر معصرات ، والرياح تلقح السحاب فيكون المطر. ويجوز أن تكون هذه الأقوال قولا واحدا ، ويكون المعنى : وأنزلنا من ذوات المعصرات ماء ثجّاجا. قال في الصحاح : والمعصرات السحائب تعتصر بالمطر وعصر القوم أي مطروا. قال المبرد : يقال سحاب معصر ، أي : ممسك للماء يعتصر منه شيء بعد شيء. وقال أبيّ بن كعب والحسن وابن جبير وزيد ابن أسلم ومقاتل بن حيان : المعصرات : السماوات ، والثجاج : المنصبّ بكثرة على جهة التتابع ، يقال : ثجّ الماء ، أي : سال بكثرة ، وثجّه ، أي : أساله. قال الزجاج : الثجاج : الصّبّاب. قال ابن زيد : ثجاجا : كثيرا (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً) أي : لنخرج بذلك الماء حبا يقتات ، كالحنطة والشعير ونحوهما ، والنبات : ما تأكله الدواب من الحشيش وسائر النبات (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) أي : بساتين ملتفّ بعضها ببعض لتشعّب أغصانها ، ولا واحد للألفاف ، كالأوزاع والأخياف ، وقيل : واحدها لف بكسر اللام وضمها ، ذكره الكسائي. وقال أبو عبيدة : واحدها لفيف ؛ كشريف وأشراف ، وروي عن الكسائي أنها جمع الجمع يقال جنة لفاء ونبت لف ، والجمع لفّ بضم اللام مثل حمر ، ثم يجمع هذا الجمع على ألفاف ، وقيل : هو جمع
__________________
(١). الزمر : ٤٢.
(٢). الأنعام : ٦٠.