الجواب عما تقدّم فقال : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) والمعنى : أنها علمته عند نشر الصحف لا عند البعث ؛ لأنه وقت واحد من عند البعث إلى عند مصير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار ، والكلام في إفراد نفس هنا كما تقدّم في السورة الأولى في قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١). ومعنى (ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) ما قدّمت من عمل خير أو شرّ ، وما أخّرت من سنّة حسنة أو سيئة ؛ لأن لها أجر ما سنّته من السنن الحسنة وأجر من عمل بها ، وعليها وزر ما سنّته من السنن السيئة ووزر من عمل بها. وقال قتادة : ما قدّمت من معصية وأخّرت من طاعة ، وقيل : ما قدّم من فرض وأخّر من فرض ، وقيل : أوّل عمله وآخره ، وقيل : إن النفس تعلم عند البعث بما قدّمت وأخّرت علما إجماليا ؛ لأن المطيع يرى آثار السعادة ، والعاصي يرى آثار الشقاوة ، وأما العلم التفصيلي فإنما يحصل عند نشر الصحف (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) هذا خطاب للكافر ، أي : ما الّذي غرّك وخدعك حتى كفرت بربك الكريم الّذي تفضّل عليك في الدنيا بإكمال خلقك وحواسّك ، وجعلك عاقلا فاهما ، ورزقك وأنعم عليك بنعمه التي لا تقدر على جحد شيء منها. قال قتادة : غرّه شيطانه المسلّط عليه. وقال الحسن : غرّه شيطانه الخبيث ، وقيل : حمقه وجهله ، وقيل : غرّه عفو الله إذ لم يعاجله بالعقوبة أوّل مرّة. كذا قال مقاتل ، (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) أي : خلقك من نطفة ولم تك شيئا ، فسوّاك رجلا تسمع وتبصر وتعقل ، فعدلك : جعلك معتدلا. قال عطاء : جعلك قائما معتدلا حسن الصورة. وقال مقاتل : عدّل خلقك في العينين والأذنين واليدين والرجلين ، والمعنى : عدل بين ما خلق لك من الأعضاء. قرأ الجمهور : (فَعَدَلَكَ) مشدّدا ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف ، واختار أبو حاتم وأبو عبيد القراءة الأولى. قال الفراء وأبو عبيد : يدلّ عليها قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٢) ومعنى القراءة الأولى : أنه سبحانه جعل أعضاءه متعادلة لا تفاوت فيها ؛ ومعنى القراءة الثانية : أنه صرفه وأماله إلى أيّ صورة شاء ، إما حسنا وإما قبيحا ، وإما طويلا وإما قصيرا ، (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) في أيّ صورة متعلق بركبك ، وما مزيدة ، وشاء صفة لصورة ، أي : ركبك في أيّ صورة شاءها من الصور المختلفة ، وتكون هذه الجملة كالبيان لقوله : (فَعَدَلَكَ) والتقدير : فعدلك : ركبك في أيّ صورة شاءها ، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنه حال ، أي : ركبك حاصلا في أيّ صورة. ونقل أبو حيان عن بعض المفسرين أنه متعلق بعدّلك. واعترض عليه بأن أيّ لها صدر الكلام فلا يعمل فيها ما قبلها. قال مقاتل والكلبي ومجاهد : في أيّ شبه من أب أو أمّ أو خال أو عمّ. وقال مكحول : إن شاء ذكرا وإن شاء أنثى ، وقوله : (كَلَّا) للردع والزجر عن الاغترار بكرم الله وجعله ذريعة إلى الكفر به والمعاصي له ، ويجوز أن يكون بمعنى حقا. وقوله : (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) إضراب عن جملة مقدّرة ينساق إليها الكلام ، كأنه قيل : بعد الردع وأنتم لا ترتدعون عن ذلك بل تجاوزونه إلى ما هو أعظم منه من التكذيب بالدين وهو الجزاء ، أو بدين الإسلام. قال ابن الأنباري : الوقف الجيد على «الدين» وعلى
__________________
(١). التكوير : ١٤.
(٢). التين : ٤.