نبّههم على عظيم من خلقه قد ذلّه الله للصغير يقوده وينيخه وينهضه ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك ، فينهض بثقل حمله ، وليس ذلك في شيء من الحوامل غيره ، فأراهم عظيما من خلقه ليدلّ بذلك على توحيده. وسئل الحسن عن هذه الآية ، وقيل له : الفيل أعظم في الأعجوبة ، فقال : أما الفيل فالعرب بعيدة العهد به ، ثم هو خنزير لا يركب ظهره ولا يؤكل لحمه ولا يحلب درّه ، والإبل من أعزّ مال العرب وأنفسه ، تأكل النّوى والقتّ ، وتخرج اللبن ، ويأخذ الصبيّ بزمامها فيذهب بها حيث شاء مع عظمها في نفسها. وقال المبرد : الإبل هنا هي القطع العظيمة من السحاب ، وهو خلاف ما ذكره أهل التفسير واللغة. وروى عن الأصمعي أنه قال : من قرأ (خُلِقَتْ) بالتخفيف عنى به البعير ، ومن قرأ بالتشديد عنى به السحاب. (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) أي : رفعت فوق الأرض بلا عمد على وجه لا يناله الفهم ولا يدركه العقل ، وقيل : رفعت فلا ينالها شيء (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) على الأرض مرساة راسخة لا تميد ولا تزول (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) أي : بسطت ، والسطح : بسط الشيء ، يقال : لظهر البيت إذا كان مستويا : سطح. قرأ الجمهور : (سُطِحَتْ) مبنيا للمفعول مخففا. وقرأ الحسن : بالتشديد. وقرأ عليّ بن أبي طالب وابن السّميقع وأبو العالية : خلقت ورفعت ونصبت وسطحت على البناء للفاعل ، وضم التاء فيها كلها. ثم أمر سبحانه رسوله صلىاللهعليهوسلم بالتذكير فقال : (فَذَكِّرْ) والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : فعظهم يا محمد وخوّفهم ، ثم علل الأمر بالتذكير فقال : (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) أي : ليس عليك إلا ذلك ، و (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) المصيطر والمسيطر بالسين والصاد : المسلط على الشيء ليشرف عليه ويتعهد أحواله كذا في الصحاح ، أي : لست عليهم بمصيطر حتى تكرههم على الإيمان ، وهذا منسوخ بآية السيف. قرأ الجمهور : (بِمُصَيْطِرٍ) بالصاد ، وقرأ هشام وقنبل في رواية بالسين. وقرأ خلف بإشمام الصاد زايا. وقرأ هارون الأعور بفتح الطاء اسم مفعول (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) هذا استثناء منقطع ، أي : لكن من تولى عن الوعظ والتذكير (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ) (الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) وهو عذاب جهنم الدائم ، وقيل : هو استثناء متصل من قوله : (فَذَكِّرْ) أي : فذكر كلّ أحد إلا من انقطع طمعك عن إيمانه وتولّى فاستحق العذاب الأكبر ، والأوّل أولى. وإنما قال : (الْأَكْبَرَ) لأنهم قد عذّبوا في الدّنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر. وقرأ ابن مسعود : «فإنه يعذّبه الله» وقرأ ابن عباس وقتادة : «ألا من تولى» على أنها ألا التي للتنبيه والاستفتاح (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) أي : رجوعهم بعد الموت ، يقال آب يؤوب : إذا رجع ، ومنه قول عبيد بن الأبرص :
وكلّ ذي غيبة يؤوب |
|
وغائب الموت لا يؤوب |
قرأ الجمهور : (إِيابَهُمْ) بالتخفيف ، وقرأ أبو جعفر وشيبة بالتشديد. قال أبو حاتم : لا يجوز التشديد ولو جاز لجاز مثله في الصيام والقيام ، وقيل : هما لغتان بمعنى. قال الواحدي : وأما (إِيابَهُمْ) بتشديد الياء فإنه شاذ لم يجزه أحد غير الزجاج (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) يعني جزاءهم بعد رجوعهم إلى الله بالبعث ، و «ثم» للتراخي في الرتبة ؛ لبعد منزلة الحساب في الشدّة عن منزلة الإياب.