الفتح حتى قاتل ، وقد قال صلىاللهعليهوسلم : «لم تحلّ لأحد قبلي ، ولا تحلّ لأحد بعدي ، ولم تحلّ لي إلا ساعة من نهار». قال : والمعنى أن الله لما ذكر القسم بمكة دلّ ذلك على عظم قدرها مع كونها حراما ، فوعد نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يحلّها له حتى يقاتل فيها ويفتحها على يده ، فهذا وعد من الله تعالى بأن يحلها له حتى يكون بها حلا ، انتهى. فالمعنى : وأنت حلّ بهذا البلد في المستقبل ، كما في قوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) قال مجاهد : المعنى ما صنعت فيه من شيء فأنت حلّ. قال قتادة : أنت حلّ له لست بآثم ، يعني : أنك غير مرتكب في هذه البلد ما يحرم عليك ارتكابه ، لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر والمعاصي. وقيل : المعنى : لا أقسم بهذا البلد وأنت حالّ به ومقيم فيه وهو محلك ، فعلى القول بأن لا نافية غير زائدة يكون المعنى : لا أقسم به وأنت حالّ به ، فأنت أحقّ بالإقسام بك ، وعلى القول بأنها زائدة يكون المعنى : أقسم بهذا البلد الّذي أنت مقيم به تشريفا لك وتعظيما لقدرك ؛ لأنه قد صار بإقامتك فيه عظيما شريفا ، وزاد على ما كان عليه من الشرف والعظم ، ولكن هذا إذا تقرّر في لغة العرب أن لفظ حلّ يجيء بمعنى حلّ ، وكما يجوز أن تكون الجملة معترضة يجوز أن تكون في محل نصب على الحال (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) عطف على البلد. قال قتادة ومجاهد والضحاك والحسن وأبو صالح (وَوالِدٍ) أي : آدم (وَما وَلَدَ) أي : وما تناسل من ولده أقسم بهم لأنهم أعجب ما خلق الله على وجه الأرض لما فيهم من البيان والعقل والتدبير ، وفيهم الأنبياء والعلماء والصالحون. وقال أبو عمران الجوني : الوالد : إبراهيم وما ولد : ذريته. قال الفرّاء : إن «ما» عبارة عن الناس كقوله : (ما طابَ لَكُمْ) (٢) وقيل : الوالد : إبراهيم ، والولد : إسماعيل ومحمد صلىاللهعليهوسلم. وقال عكرمة وسعيد بن جبير : (وَوالِدٍ) يعني الّذي يولد له (وَما وَلَدَ) يعني العاقر الّذي لا يولد له ، وكأنهما جعلا «ما» نافية ، وهو بعيد ، ولا يصحّ ذلك إلا بإضمار الموصول : أي : ووالد والّذي ما ولد ، ولا يجوز إضمار الموصول عند البصريين ، وقال عطية العوفي : هو عام في كل والد ومولود من جميع الحيوانات ، واختار هذا ابن جرير (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) هذا جواب القسم ، والإنسان هو هذا النوع الإنساني ، والكبد : الشدّة والمشقة ، يقال : كابدت الأمر : قاسيت شدّته ، والإنسان لا يزال في مكابدة الدنيا ومقاساة شدائدها حتى يموت ، وأصل الكبد : الشدّة ، ومنه تكبّد اللبن : إذا غلظ واشتدّ ، ويقال : كبد الرجل ؛ إذا وجعت كبده ، ثم استعمل في كل شدّة ومشقة ، ومنه قول أبي الأصبغ :
لي ابن عمّ لو أن النّاس في كبد |
|
لظلّ محتجرا بالنّبل يرميني |
قال الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وقال أيضا : يكابد الشكر على السرّاء ، ويكابد الصبر على الضرّاء ، لا يخلو عن أحدهما. قال الكلبي : نزلت هذه الآية في رجل من بني جمح يقال له أبو الأشدين (٣) ، وكان يأخذ الأديم العكاظيّ ويجعله تحت رجليه ، ويقول : من أزالني عنه فله كذا ، فيجذبه
__________________
(١). الزمر : ٣٠.
(٢). النساء : ٣.
(٣). في الكشاف : أبو الأشدّ.