جمع صحيفة ، وهي ظرف المكتوب ، ومعنى مطهرة : أنها منزهة من الزور والضلال. قال قتادة : مطهرة من الباطل ، وقيل : مطهرة من الكذب والشبهات والكفر ، والمعنى واحد ؛ والمعنى : أنه يقرأ ما تتضمّنه الصحف من المكتوب فيها لأنه كان صلىاللهعليهوسلم يتلو عن ظهر قلبه ، لا عن كتاب كما تقدّم ، وقوله : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) صفة لصحفا ، أو حال من ضميرها ، والمراد الآيات والأحكام المكتوبة فيها ، والقيمة : المستقيمة المستوية المحكمة ، من قول العرب : قام الشيء ؛ إذا استوى وصحّ. وقال صاحب النظم : الكتب بمعنى الحكم كقوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (١) أي : حكم ، وقوله صلىاللهعليهوسلم في قصة العسيف «لأقضينّ بينكما بكتاب الله» ثم قضى بالرجم ، وليس الرجم في كتاب الله ، فالمعنى : لأقضين بينكما بحكم الله ، وبهذا يندفع ما قيل إن الصحف هي الكتب ، فكيف قال (صُحُفاً مُطَهَّرَةً ـ فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) وقال الحسن : يعني بالصحف المطهرة : التي في السماء ، يعني في اللوح المحفوظ كما في قوله : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ـ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٢). (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) هذه الجملة مستأنفة لتوبيخ أهل الكتاب وتقريعهم ، وبيان أن ما نسب إليهم من عدم الانفكاك لم يكن لاشتباه الأمر ، بل كان بعد وضوح الحق وظهور الصواب.
قال المفسرون : لم يزل أهل الكتاب مجتمعين حتى بعث الله محمدا ، فلما بعث تفرقوا في أمره واختلفوا ، فآمن به بعضهم وكفر آخرون. وخصّ أهل الكتاب ، وإن كان غيرهم مثلهم في التفرّق بعد مجيء البينة لأنهم كانوا أهل علم ، فإذا تفرّقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف ، والاستثناء في قوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) مفرّغ من أعم الأوقات ، أي : وما تفرّقوا في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجّة الواضحة ، وهي بعثة رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالشريعة الغرّاء والمحجّة البيضاء. وقيل : البينة : البيان الّذي في كتبهم أنه نبيّ مرسل ، كقوله : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) (٣) قال القرطبي : قال العلماء : من أوّل السورة إلى قوله : (كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين ، وقوله : (وَما تَفَرَّقَ) إلخ فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب والمشركين بعد قيام الحجج ، وجملة (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) في محل نصب على الحال مفيدة لتقريعهم وتوبيخهم بما فعلوا من التفرّق بعد مجيء البينة ، أي : والحال أنهم ما أمروا في كتبهم إلا لأجل أن يعبدوا الله ويوحّدوه حال كونهم (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : جاعلين دينهم خالصا له سبحانه أو جاعلين أنفسهم خالصة له في الدين ، وقيل : إن اللام في ليعبدوا بمعنى أن ، أي : ما أمروا إلا بأن يعبدوا كقوله : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (٤) أي : أن يبين ، و (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) (٥) أي : أن يطفئوا. قرأ الجمهور : «مخلصين» بكسر اللام ، وقرأ الحسن بفتحها. وهذه الآية من الأدلة الدالة على وجوب النية في العبادات لأن الإخلاص من عمل القلب ،
__________________
(١). المجادلة : ٢١.
(٢). البروج : ٢١ ـ ٢٢.
(٣). آل عمران : ١٩.
(٤). النساء : ٢٦.
(٥). الصف : ٨.