وانتصاب (حُنَفاءَ) على الحال من ضمير مخلصين ، فتكون من باب التداخل ، ويجوز أن تكون من فاعل يعبدوا ، والمعنى : مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام. قال أهل اللغة : أصله أن يحنف إلى دين الإسلام ، أي : يميل إليه (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) أي : يفعلوا الصلوات في أوقاتها ، ويعطوا الزكاة عند محلّها ، وخصّ الصلاة والزكاة لأنهما من أعظم أركان الدين. قيل : إن أريد بالصلاة والزكاة ما في شريعة أهل الكتاب من الصلاة والزكاة فالأمر ظاهر ، وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أمرهم باتباع شريعتنا ، وهما من جملة ما وقع الأمر به فيها (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي : وذلك المذكور من عبادة الله وإخلاصها وإقامة الصلاة والزكاة (دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي دين الملة المستقيمة. قال الزجاج : أي ذلك دين الملة المستقيمة ، فالقيمة صفة لموصوف محذوف. قال الخليل : القيمة جمع القيم ، والقيم : القائم. قال الفراء : أضاف الدّين إلى القيمة ، وهو نعته لاختلاف اللفظين. وقال أيضا : هو من إضافة الشيء إلى نفسه ، ودخلت الهاء للمدح والمبالغة.
ثم بيّن سبحانه حال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ) الموصول اسم إنّ ، والمشركين معطوف عليه ، وخبرها : في نار جهنم ، و (خالِدِينَ فِيها) حال من المستكنّ في الخبر ، ويجوز أن يكون قوله والمشركين مجرورا عطفا على أهل الكتاب ومعنى كونهم في نار جهنم أنهم يصيرون إليها يوم القيامة ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى من تقدّم ذكرهم من أهل الكتاب والمشركين المتّصفين بالكون في نار جهنم والخلود فيها (هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي : الخليقة ، يقال برأ ، أي : خلق ، والبارئ : الخالق ، والبرية : الخليقة. قرأ الجمهور : «البرية» بغير همز في الموضعين وقرأ نافع وابن ذكوان فيهما بالهمز. قال الفراء : إن أخذت البرية من البراء وهو التراب لم تدخل الملائكة تحت هذا اللفظ ، وإن أخذتها من بريت القلم ، أي : قدّرته دخلت. وقيل : إن الهمز هو الأصل ؛ لأنه يقال : برأ الله الخلق بالهمز ، أي : ابتدعه واخترعه ، ومنه قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) (١) ولكنها خففت الهمزة ، والتزم تخفيفها عند عامة العرب. ثم بيّن حال الفريق الآخر فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح (أُولئِكَ) المنعوتون بهذا (هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال : والمراد أن أولئك شرّ البرية في عصره صلىاللهعليهوسلم ، ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم من هو شرّ منهم ، وهؤلاء خير البرية في عصره صلىاللهعليهوسلم ، ولا يبعد أن يكون في مؤمني الأمم السابقة من هو خير منهم (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : ثوابهم عند خالقهم بمقابلة ما وقع منهم من الإيمان والعمل الصالح (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) والمراد بجنات عدن هي أوسط الجنات وأفضلها ، يقال : عدن بالمكان يعدن عدنا ، أي : أقام ، ومعدن الشيء : مركزه ومستقرّه ، ومنه قول الأعشى :
وإن يستضافوا إلى حكمه |
|
يضافوا إلى راجح قد عدن |
__________________
(١). الحديد : ٢٢.