وقد قدّمنا في غير موضع أنه إن أريد بالجنات الأشجار الملتفة ، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر ، وإن أريد مجموع قرار الأرض والشجر ، فجرى الأنهار من تحتها باعتبار جزئها الظاهر ، وهو الشجر (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) لا يخرجون منها ولا يظعنون عنها ، بل هم دائمون في نعيمها مستمرون في لذاتها (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) الجملة مستأنفة لبيان ما تفضل الله به عليهم من الزيادة على مجرّد الجزاء ، وهو رضوانه عنهم حيث أطاعوا أمره وقبلوا شرائعه ، ورضاهم عنه حيث بلغوا من المطالب ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. ويجوز أن تكون الجملة خبرا ثانيا ، وأن تكون في محل نصب على الحال بإضمار قد (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي : ذلك الجزاء والرضوان لمن وقعت منه الخشية لله سبحانه في الدنيا وانتهى عن معاصيه بسبب تلك الخشية التي وقعت له لا مجرّد الخشية مع الانهماك في معاصي الله سبحانه فإنها ليست بخشية على الحقيقة.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (مُنْفَكِّينَ) قال : برحين. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : أتعجبون من منزلة الملائكة من الله ، والّذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من منزلة ملك ، واقرءوا إن شئتم : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ). وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : «قلت : يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟ قال : يا عائشة أما تقرئين : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)». وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : «كنا عند النبي صلىاللهعليهوسلم فأقبل عليّ ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : والّذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ، ونزلت : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) فكان أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم إذا أقبل قالوا : قد جاء خير البرية». وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعا : «عليّ خير البرية». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : «لما نزلت هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعليّ : «هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين». وأخرج ابن مردويه عن عليّ مرفوعا نحوه. وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألا أخبركم بخير البرية؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما كانت هيعة (١) استوى عليه ، ألا أخبركم بشرّ البرية؟ قالوا : بلى : قال : الّذي يسأل بالله ولا يعطي به». قال أحمد : حدّثنا إسحاق بن عيسى ، حدّثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فذكره.
* * *
__________________
(١). الهيعة : الصوت الّذي تفزع منه وتخافه من عدو.