كأنه استعاذ ربه من ذلك الشيطان الواحد ، ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس ، وقيل : المراد بالناس الناسي وسقطت الياء كسقوطها في قوله : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) (١) ثم بيّن بالجنة والناس ؛ لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان ، وأحسن من هذا أن يكون قوله : (وَالنَّاسِ) معطوفا على الوسواس ، أي : من شرّ الوسواس ومن شرّ الناس ؛ كأنه أمر أن يستعيذ من شرّ الجنّ والإنس. قال الحسن : أما شيطان الجنّ فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وقال قتادة : إن من الجنّ شياطين ، وإن من الإنس شياطين ، فنعوذ بالله من شياطين الجنّ والإنس ، وقيل : إن إبليس يوسوس في صدور الجنّ كما يوسوس في صدور الإنس ، وواحد الجنة : جنّي ، كما أن واحد الإنس إنسيّ. والقول الأوّل هو أرجح هذه الأقوال ، وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا تكون إلا بالمعنى الّذي قدّمنا ، ويكون هذا البيان تذكير الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ بالله منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة.
وقد أخرج ابن أبي داود عن ابن عباس في قوله : (الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) قال : مثل الشيطان كمثل ابن عرس واضع فمه على فم القلب فيوسوس إليه ، فإن ذكر الله خنس ، وإن سكت عاد إليه ، فهو الوسواس الخناس. وأخرج ابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان ، وأبو يعلى وابن شاهين ، والبيهقي في الشعب ، عن أنس عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم ، فإن ذكر الله خنس ، وإن نسيه التقم قلبه ، فذلك الوسواس الخناس». وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) قال : الشيطان جاث على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، والبيهقي عنه قال : ما من مولود يولد إلا على قلبه الوسواس ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا غفل وسوس ، فذلك قوله : (الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) وقد ورد في معنى هذا غيره ، وظاهره أن مطلق ذكر الله يطرد الشيطان ، وإن لم يكن على طريق الاستعاذة ، ولذكر الله سبحانه فوائد جليلة ؛ حاصلها : الفوز بخيري الدنيا والآخرة.
* * *
وإلى هنا انتهى هذا التفسير المبارك بقلم مؤلفه محمد بن علي بن محمد الشوكاني ، غفر الله له ذنوبه ، وكان الفراغ منه في ضحوة يوم السبت ؛ لعله الثامن والعشرون من شهر رجب ، أحد شهور سنة تسع وعشرين بعد مائتين وألف سنة من الهجرة النبوية.
اللهمّ كما مننت عليّ بإكمال هذا التفسير ، وأعنتني على تحصيله ، وتفضّلت عليّ بالفراغ منه ، فامنن عليّ بقبوله ، واجعله لي ذخيرة عندك ، وأجزل لي المثوبة بما لاقيته من التعب والنصب في تحريره وتقريره ، وانفع به من شئت من عبادك ليدوم لي الانتفاع به بعد موتي ، فإن هذا هو المقصد الجليل من التصنيف ، واجعله
__________________
(١). القمر : ٦.