أصواتكم إلى حدّ يكون فوق ما يبلغه صوت النبيّ صلىاللهعليهوسلم. قال المفسرون : المراد من الآية تعظيم النبي صلىاللهعليهوسلم وتوقيره وأن لا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أي : لا تجهروا بالقول إذا كلّمتموه ، كما تعتادونه من الجهر بالقول إذا كلم بعضكم بعضا. قال الزجاج : أمرهم الله بتبجيل نبيه وأن يغضوا أصواتهم ويخاطبوه بالسكينة والوقار ، وقيل : المراد بقوله : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) لا تقولوا : يا محمد ، ويا أحمد ، ولكن يا نبيّ الله ، ويا رسول الله ، توقيرا له ، والكاف في محل نصب على أنها مصدر محذوف ، أي : جهرا مثل جهر بعضكم لبعض ، وليس المراد برفع الصوت وبالجهر في القول هو ما يقع على طريقة الاستخفاف فإن ذلك كفر ، وإنما المراد أن يكون الصوت في نفسه غير مناسب لما يقع في مواقف من يجب تعظيمه وتوقيره. والحاصل : أن النهي هنا وقع عن أمور : الأوّل : عن التقدّم بين يديه بما لا يأذن به من الكلام. والثاني : عن رفع الصوت البالغ إلى حدّ يكون فوق صوته ، سواء كان في خطابه أو في خطاب غيره. والثالث : ترك الجفاء في مخاطبته ولزوم الأدب في مجاورته ؛ لأن المقاولة المجهورة إنما تكون بين الأكفاء الذين ليس لبعضهم على بعض مزيّة توجب احترامه وتوقيره. ثم علّل سبحانه ما ذكره بقوله : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) قال الزجّاج : «أن تحبط أعمالكم» التقدير لأن تحبط أعمالكم ، أي : فتحبط ، فاللام المقدرة لام الصيرورة كذا قال ، وهذه العلّة يصحّ أن تكون للنهي ، أي : نهاكم الله عن الجهر خشية أن تحبط ، أو كراهة أن تحبط ، أو علّة للمنهي ، أي : لا تفعلوا الجهر فإنه يؤدّي إلى الحبوط ، فكلام الزجاج ينظر إلى الوجه الثاني لا إلى الوجه الأوّل ، وجملة : (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) في محل نصب على الحال ، وفيه تحذير شديد ووعيد عظيم. قال الزجاج : وليس المراد وأنتم لا تشعرون يوجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم ، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر ، كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم. ثم رغّب سبحانه في امتثال ما أمر به ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) أصل الغض النقص من كل شيء ، ومنه نقص الصوت (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) قال الفراء : أخلص قلوبهم للتقوى كما يمتحن الذهب بالنار ، فيخرج جيده من رديئه ويسقط خبيثة. وبه قال مقاتل ومجاهد وقتادة. وقال الأخفش : اختصّها للتقوى ، وقيل : طهّرها من كلّ قبيح ، وقيل : وسّعها وسرّحها ، من منحت الأديم ؛ إذا أوسعته. وقال أبو عمرو : كلّ شيء جهدته فقد محنته ، واللام في «للتقوى» متعلّقة بمحذوف ، أي : صالحة للتقوى ، كقولك : أنت صالح لكذا ، أو للتعليل الجاري مجرى بيان السبب ، كقولك : جئتك لأداء الواجب ، أي : ليكون مجيئي سببا لأداء الواجب (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أي : أولئك لهم ، فهو خبر آخر لاسم الإشارة ، ويجوز أن يكون مستأنفا لبيان ما أعدّ الله لهم في الآخرة (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) هم جفاة بني تميم كما سيأتي بيانه ، ووراء الحجرات. خارجها وخلفها ، والحجرات : جمع حجرة ، كالغرفات جمع غرفة ، والظّلمات : جمع ظلمة ، وقيل : الحجرات جمع حجر ، والحجر جمع حجرة ، فهو جمع الجمع. والحجرة : الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها ، وهي فعلة بمعنى مفعولة. قرأ الجمهور : الحجرات بضم الجيم. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة