بفتحها تخفيفا ، وقرأ ابن أبي عبلة : بإسكانها ، وهي لغات ، و (مِنْ) في (مِنْ وَراءِ) لابتداء الغاية ، ولا وجه للمنع من جعلها لهذا المعنى (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) لغلبة الجهل عليهم وكثرة الجفاء في طباعهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي : لو انتظروا خروجك ، ولم يعجلوا بالمناداة ، لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم ، لما في ذلك من رعاية حسن الأدب مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ورعاية جانبه الشريف والعمل بما يستحقّه من التعظيم والتبجيل. وقيل : إنهم جاءوا شفعاء في أسارى ، فأعتق رسول الله صلىاللهعليهوسلم نصفهم وفادى نصفهم ، ولو صبروا لأعتق الجميع ، ذكر معناه مقاتل. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) كثير المغفرة والرحمة ، بليغهما ، لا يؤاخذ مثل هؤلاء فيما فرط منهم من إساءة الأدب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) قرأ الجمهور : (فَتَبَيَّنُوا) من التبيّن ، وقرأ حمزة والكسائي : «فتثبتوا» من التثبت ، والمراد من التبين التعرّف والتفحّص ، ومن التثبت : الأناة وعدم العجلة ، والتبصّر في الأمر الواقع ، والخبر الوارد حتى يتّضح ويظهر. قال المفسرون : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط كما سيأتي بيانه إن شاء الله. وقوله (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) مفعول له ، أي : كراهة أن تصيبوا ، أو لئلا تصيبوا ؛ لأن الخطأ ممّن لم يتبين الأمر ولم يتثبت فيه هو الغالب وهو جهالة ، لأنه لم يصدر عن علم ، والمعنى : متلبسين بجهالة بحالهم (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ) بهم من إصابتهم بالخطإ (نادِمِينَ) على ذلك مغتمين له مهتمين به. ثم وعظهم الله سبحانه فقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) فلا تقولوا قولا باطلا ولا تتسرّعوا عند وصول الخبر إليكم من غير تبيّن ، و «أن» وما في حيزها سادة مسدّ مفعولي «اعلموا» ، وجملة (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) في محل نصب على الحال من ضمير فيكم أو مستأنفة ، والمعنى : لو يطيعكم في كثير مما تخبرونه به من الأخبار الباطلة ، وتشيرون به عليه من الآراء التي ليست بصواب لوقعتم في العنت ؛ وهو التعب ، والجهد ، والإثم ، والهلاك ، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له ، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) أي : جعله أحبّ الأشياء إليكم ، أو محبوبا لديكم ، فلا يقع منكم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة ، وترك التسرع في الأخبار ، وعدم التثبت فيها ، قيل : والمراد بهؤلاء من عدا الأوّلين لبيان براءتهم عن أوصاف الأوّلين ، والظاهر : أنه تذكير للكلّ بما يقتضيه الإيمان وتوجبه محبته التي جعلها الله في قلوبهم (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي : حسّنه بتوفيقه حتى جروا على ما يقتضيه في الأقوال والأفعال (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) أي : جعل كل ما هو من جنس الفسوق ومن جنس العصيان مكروها عندكم. وأصل الفسق الخروج على الطاعة ، والعصيان جنس ما يعصى الله به ، وقيل : أراد بذلك الكذب خاصة ، والأول أولى (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي : الموصوفون بما ذكرهم الراشدون. والرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلّب ، من الرّشادة : وهي الصخرة (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) أي : لأجل فضله وإنعامه ، والمعنى : أنه حبّب إليكم ما حبّب ، وكرّه لأجل فضله وإنعامه ، أو جعلكم راشدين لأجل ذلك ، وقيل : النصب بتقدير فعل : أي تبتغون فضلا ونعمة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بكل معلوم (حَكِيمٌ) في كل ما يقضي به بين عباده ويقدّره لهم.