دخلت مع أبي على معاوية ، فكان أبي يأتيه يتحدّث عنده ثمّ ينصرف إلىّ فيذكر معاوية وعقله ، ويعجب ممّا يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء فرأيته مغتمّاً ، فانتظرته ساعة وظننتُ أنّه لشيء حدث فينا أو في عملنا ، فقلتُ له : ما لي أراك مُغتمّاً منذ الليلة؟
قال : يا بني إنّي جئتُ من عند أخبث الناس ، قلتُ له : وما ذاك ، قال : قلتُ لمعاوية وقد خلوتُ به : إنّك قد بلغتَ مُناك يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلا ، وبسطت خيراً ، فإنّك قد كبرتَ ، ولو نظرتَ إلى إخوتك من بني هاشم فوصلتَ أرحامهم ، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه ، وإنّ ذلك ممّا يبقى لك ذكره وثوابه.
فقال لي : هيهات هيهات! أيّ ذكر أرجو بقاءه؟ ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل ، فما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل : أبو بكر ، ثمّ ملك أخو عدي فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فوالله ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل : عمر ، ثمّ ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه ، فعمل ما عمل وعُمل به ، فوالله ما غدا أن هلك فهلك ذكره وذكر ما فُعل به ، وإن أخا هاشم يصرخ به في كلّ يوم خمس مرّات : أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، فأيّ عمل وأي ذكر يبقى مع هذا لا أمّ لك؟ والله إلاّ دفناً دفناً (١).
خسئتَ وَخبتَ وأخزاك الله يا من أردت دفنَ ذكر رسول الله بكلّ جهودك ، وأنفقت في سبيل ذلك كلّ ما تملكه ، ولكنّ جهودك كلّها باءتْ
____________
(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٥ : ١٣٠ ، مروج الذهب ٣ : ٤٥٤ في نداء المأمون بسب معاوية.