لاستلزامها أحكاما تكليفيّة والّذي يدلّ عليه وجوه :
أحدها : أنّ مسائل كلّ علم ـ على ما قرّرناه سابقا ـ عبارة عن النسب الخبريّة الّتي يستدلّ عليها في الفنّ أصالة ، ويعبّر عنها بما دوّن العلم لأجل بيانه ، على معنى كون الغرض من تدوين الفنّ بيانه ، بحيث لولاه لم يكن الفنّ مدوّنا ، وهي بهذا المعنى مخصوصة بالأحكام التكليفيّة ، ضرورة أنّه لو فرض عدم وجود مكلّف أصلا ، أو عدم ثبوت تكليف لبني نوع الإنسان ، بأن يكون حالهم وحال سائر الحيوانات والبهائم سواء ، لم يكن للفقهاء غرض في وضع الفقه وتدوينه ، ولم يكونوا دوّنوه أصلا ، كما أنّه لو لا عروض الأحوال الإعرابيّة والبنائيّة لكلمات العرب ، ولو لا جهة الإيصال إلى المجهول النظري ملحوظة في التصوّرات والتصديقات ، بأن تكونا بأسرهما نظريّتين أو ضروريّتين لم يكن النحاة وأهل المنطق دوّنوا النحو والمنطق ، وإذا كانت الأحكام التكليفيّة المتوجّهة إلى بني نوع الإنسان بتلك المثابة ، فتكون هي المقصودة بالأصالة ، والبحث عن الأحكام الوضعيّة مقصود تبعا ، لما ينشأ منها من الأحكام التكليفيّة.
ويؤيّده أنّ النجاسة في الكلب وغيره من الأعيان النجسة الّتي يبحث عنها في الفقه ، من الصفات الذاتيّة لتلك الأعيان ، ولها صفات ذاتيّة اخر ولم يتعرّض الفقهاء لبيان تلك الصفات ، بل لو تعرّض أحد لبيانها كان مستنكرا ، فإفرادهم النجاسة بالبحث دون غيرها ليس إلاّ من جهة أنّ النجاسة منشأ لتكاليف لا تنشأ عن غيرها.
وثانيها : أنّ من الأحكام الوضعيّة ـ على ما تبيّن سابقا ـ السببيّة والجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة بل هي العمدة منها ، والبحث عنها في الفقه في كلّ من العبادات والمعاملات معا راجع إلى بيان ماهيّة العبادة والمعاملة ، الّتي هي من موضوعات الأحكام التكليفيّة ، كالوجوب في الصلاة ونحوها ، والحلّية في البيع ونحوه ، والحرمة في الرباء ونحوه.