وبالجملة ، فمفاسد هذا القول أكثر من أن تذكر ، وأظهر من أن تنشر. ثم إنا لو سلمنا صراحة ما استدل به الخصم في المقام ، لكان الجواب عنه بأن يقال : إن من القواعد المقرّرة عن أهل العصمة ـ صلوات الله عليهم ـ أنه مع اختلاف الأخبار في حكم من الأحكام تعرض على كتاب الله سبحانه ، فيؤخذ بما وافقه ويطرح ما خالفه. ولا ريب في موافقة أخبار التحريم لـ (الكتاب) ؛ لما عرفت من أن قوله سبحانه (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) شامل بإطلاقه لما لو كانت متميزة متشخصة ، أو كانت مشتبهة بأفراد محصورة ، فإنه يجب اجتنابها.
ولكن وجوب الاجتناب مع الاشتباه لمّا كان لا يتمّ إلّا باجتناب الجميع وجب اجتناب الجميع ؛ لأن ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب. ولهذا نظائر عديدة في الأحكام الشرعية ، منها قضاء الفريضة المشتبهة بالفرائض الخمس اليومية ، فإنه يجب عليه قضاء الخمس بالاتفاق نصا وفتوى. وكذلك وجوب تعدّد الصلاة في الثوبين المشتبه نجسهما بطاهرهما ، وغير هذا مع تسليم دلالة تلك الأخبار على ما ادّعاه ، وإلّا فهي عند النظر بعين التحقيق والتأمل بالفكر الصائب الدقيق لا تدلّ على ما ادّعاه.
وها نحن نفصل لك ذلك (١) بأوضح تفصيل ، ونشرحه بما يرفع عنه غشاوة القال والقيل ، فنقول : أما الروايات الدالة على أن كلّ ما فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه ـ وهي عمدة الشبهة ، فيما ذهبوا إليه ـ فالجواب عنها من وجوه :
الأول : أن الظاهر من سياق مقالها وقرائن أحوالها إنما هو بالنسبة إلى غير المحصور ، يعني : أن كل شيء من الأشياء ونوع من الأنواع له أفراد بعضها (٢) في
__________________
(١) في «ح» بعدها : مع تسليم دلالة تلك الأخبار على ما ادعاه ، وإلّا فهي عند النظر بعين ذلك.
(٢) من «ح» ، وفي «ق» : منها.