وأمّا المرتبة الثالثة ، فهي معرفته جل شانه بإشراق أنوار تجلياته ولمعان بروق عظمته ومخاطباته على مرايا قلوب صقلت بمصاقل العبادات والمجاهدات والرياضات ، وتجردت عن قيود الذنوب والمعاصي والشهوات ، فسمت إلى عالم المجردات.
وتفصيل هذه الجملة أن الله عزوجل اصطفى في عالم الأزل عبادا قرّبهم من حضرة قدسه ، وأجلسهم على بساط انسه ، وعصمهم من المعاصي والآثام ، وفتح مسامع قلوبهم لما أغلق على غيرهم من الأنام ، وخلق أرواحهم وأجسادهم ممّا لم يخلق منه سائر الأرواح والأجساد ، فجعلهم سادة للعباد ، وأنوارا في البلاد ، وسفرة بينه وبين الخلائق ، وأبوابا ونوّابا يرجع إليهم في تحقيق الحقائق وفك المغالق ، قد اجهدوا أنفسهم في مراضيه ، ووقفوها على القيام بأوامره ونواهيه ، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين وسيّد الموحدين ـ صلوات الله عليه ـ في جملة من كلماته ، منها ما في (نهج البلاغة) حيث قال : «إنّ من أحبّ عباد الله إليه عبدا أعانه على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف ، فزهر مصباح الهدى في قلبه».
إلى أن قال : «خلع [سرابيل] الشهوات ، وتخلى من الهموم إلّا همّا واحدا انفرد به فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى ، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى. قد أبصر طريقه وسلك سبيله وعرف مناره وقطع غماره ، واستمسك من العرى بأوثقها ، ومن الحبال بأمتنها. فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس قد نصب نفسه لله في أرفع الامور من إصدار كلّ وارد عليه ، وتصيير كل فرع إلى أصله. مصباح ظلمات ، كشّاف عشوات ، مفتاح مبهمات ، دفّاع معضلات ، دليل فلوات ، يقول فيفهم ، ويسكت فيسلم ، قد أخلص لله سبحانه فاستخلصه ، فهو من معادن دينه وأوتاد أرضه ، قد ألزم نفسه العدل فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه ، يصف الحق ويعمل به. ولا يدع للخير غاية إلّا أمّها ، ولا مظنّة إلّا قصدها ، قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائدة