لكم دليل عقلي ، وذلك كما تحققت أن العقول مختلفة في مراتب الإدراك ، وليس لها حدّ تقف عنده. فمن ثم ترى كلّا من اللاحقين يتكلم على دلائل السابقين وينقضها ، ويأتي بدلائل اخرى على ما ذهب إليه (١). ولذلك لا ترى دليلا واحدا مقبولا عند عامة العقلاء والأفاضل وإن كان المطلوب متحدا ، فإن جماعة من المحققين اعترفوا بأنه لا يتم دليل من الدلائل على إثبات الواجب ؛ وذلك أن الدلائل التي ذكروها مبنية على إبطال التسلسل ، ولم يتم برهان على بطلانه.
فإذا لم يتم دليل على هذا المطلب الجليل الذي توجهت إلى الاستدلال عليه كافة الخلائق ، فكيف يتم على غيره ممّا توجهت إليه آحاد المحققين وإن كان المراد به ما كان مقبولا بزعم المستدل به واعتقاده؟ فلا يجوز لنا تكفير الحكماء والزنادقة ، ولا تفسيق المعتزلة والأشاعرة ، ولا الطعن على من ذهب إلى مذهب يخالف ما نحن عليه. وذلك أن أهل كل مذهب استندوا في تقوية ذلك المذهب إلى دلائل كثيرة من العقل وكانت مقبولة في عقولهم ، معلومة لهم ، ولم يعارضها سوى دلائل العقل لأهل القول الآخر أو دلائل النقل.
وكلاهما لا يصلح دليل (٢) المعارضة لما علمتم ؛ لأن دليل النقل يجب تأويله ، ودليل العقل لهذا الشخص لا يكون حجة على غيره ؛ لأن عنده مثله ويجب عليه العمل بذلك ، مع أن الأصحاب (٣) ذهبوا إلى تكفير الفلاسفة ومن يحذو حذوهم وتفسيق أكثر طوائف المسلمين ؛ وما ذلك إلّا لأنهم لم يقبلوا منهم تلك الدلائل ولم يعدوها من دلائل العقل) (٤) انتهى كلامه زيد في الخلد إكرامه.
__________________
(١) إذا بطل العقلي فالنقلي أولى بالبطلان ، ولعمري إن هذا إبطال لدليل العقل بالعقل. (ح) لمحرره ، (هامش «ع»).
(٢) ليست في «ح».
(٣) انظر كشف اللثام ٢ : ٤١٢ ، ففيه إشارة إلى ذلك.
(٤) الأنوار النعمانية ٣ : ١٢٩ ـ ١٣٢.