عيسى ابن مريم ، فتضمنت البشارة نوعه ، وتضمنت اسمه ونسبه ، وظهر من هذا النسب أن مرجعه لأمه ، ثم تضمنت البشارة كذلك صفته ومكانه من ربه (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ، كما تضمنت ظاهرة معجزة تصاحب مولده (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) ، ولمحة من مستقبله «وكهلا» ، وسمته والموكب الذي ينتسب إليه «ومن الصالحين» ، فأما مريم الفتاة الطاهرة العذراء المقيدة بما لوف البشر في الحياة ، فقد تلقت البشارة كما يمكن أن تتلقاها فتاة ، واتجهت إلى ربها تناجيه وتتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحيّر عقل الإنسان : (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ، قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وحين يرد الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب وتزول الحيرة ويطمئن القلب ، وهكذا كان القرآن يجلو الشبهات التي تعقدها الفلسفات المعقدة ، ويقر الأمر في القلوب وفي العقول سواء (١).
وعلى أية حال ، فليس هناك من ريب في أن ولادة المسيح عيسى بن مريم ، على هذا الوضع العجيب آية بالغة على كمال قدرة الله على أنواع الخلق ، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى ، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى ، يقول ابن كثير : فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه ، فلا إله غيره ولا رب سواه (٢) ، وعلى هذا المنوال الأخير من الخلق (أي من ذكر وأنثى) جرت سنة الله التي وضعها لامتداد الحياة بالتناسل من ذكر وأنثى في
__________________
ـ ٥٤٥ ، تفسير النسفي ١ / ١٥٨ ، تفسير روح المعاني ٣ / ١٥٩ ـ ١٦٤ ، تفسير الفخر الرازي ٨ / ٤٦ ـ ٥٢ ، تفسير الكشاف ١ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ، تفسير القرطبي ص ١٣٣٠ ـ ١٣٣١ ، تفسير المنار ٣ / ٢٤٩ ـ ٢٥٥ ، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ١ / ١٨٢ ـ ١٨٣.
(١) في ظلال القرآن ١ / ٣٩٨.
(٢) تفسير ابن كثير ٣ / ١٨٧.