قوله تعالى : (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) وجوه ، أحدها : أرادت إن كان يرجى منك أن تتقي الله ويحصل ذلك بالاستعاذة بالله ، فإني عائذة به منك ، وهذا في نهاية الحسن لأنها علمت أنه لا تؤثر الاستعاذة إلا في التقي ، وهو كقوله : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، أي أن شرط الإيمان يوجب هذا ، لا أن الله يخشى في حال دون حال ، وثانيها : أن معناه ما كنت تقيا حين استحللت النظر إلي وخلوت بي ، وثالثها : أنه كان في ذلك الزمان إنسان فاجر اسمه «تقي» يتبع النساء فظنت مريم أن ذلك الشخص المشاهد هو ذلك التقي ، والأول هو الوجه (١) ، ومن ثم ذهب الألوسي إلى أن من قال إن «تقيا» اسم رجل صالح أو حتى طالح ، ليس بسديد (٢).
وعلى أية حال ، فلقد أخبرها جبريل عليهالسلام أن الله تعالى أرسله إليها ليهب لها غلاما زكيا ، يكون له شأن عجيب ، ويهبه الله النبوة والحكمة وحينئذ تملكها العجب ، وأدركتها شجاعة الأنثى المهددة في عرضها ، فتسأل في صراحة (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) ، ويبدو من سؤالها أنها لم تكن تتصور حتى اللحظة وسيلة أخرى لأن يهبها غلاما ، إلا الوسيلة المعهودة بين الذكر والأنثى ، وهذا هو الطبيعي بحكم التصور البشري ، (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا) (٣). وفي سورة آل عمران تفصيل أكثر عن الغلام المبشر به (قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٤) ، وهكذا بشرت الملائكة مريم بكلمة من الله اسمه المسيح
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ٢١ / ١٩٧ ـ ١٩٨.
(٢) تفسير روح المعاني ١٦ / ٧٧.
(٣) سورة مريم : آية ٢٠ ـ ٢١ ، في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٠٦.
(٤) سورة آل عمران : آية ٤٥ ـ ٤٦ ، وانظر : تفسير الطبري ٣ / ٢٦٩ ـ ٢٧٣ ، تفسير ابن كثير ١ / ـ