وأيا كان مكان هذه الربوة ، فما يهمنا الآن الإشارة إلى أن الشعب الإسرائيلي في ذلك الوقت إنما كان قد فقد الروح الديني الصحيح ، وجمد على الطقوس والمراسيم وأشكال العبادة ، وارتكب الجرائم المروعة التي أشار القرآن الكريم إلى بعضها (١) ، فأراد الله أن يهز في هذا الشعب ما جمد من عواطفه ، ويحرك فيه المعاني الروحية التي نسيها ، فأجرى له ثلاث آيات كبار ، جاءت متتابعة متقاربة ، الأولى في ولادة مريم ، والثانية في ولادة يحيى ، وأما الثالثة فكانت في ولادة المسيح ، وذلك أن مريم البتول ما أن بلغت مبلغ النساء ، حتى أراد الله أن يجعل لها من الكرامة ما لم يتيسر لغيرها من نساء العالمين ، فهيأ لها الحمل دون تتوافر لها أسبابه ، وذلك بأن جاءها جبريل ، في أرجح الآراء ، في صورة فتى غض الشباب فتملكها الرعب والخوف ، وظنت أنه يريد بها السوء ، ومن ثم فهي تنتفض منه انتفاضة العذراء يفجؤها رجل في خلوتها ، فتلجأ إلى الله تستعيذ به وتستنجد وتستثير مشاعر التقوى في نفس الرجل ، والخوف من الله والتحرج من رقابته في هذا المكان الخالي «قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا» ، فالتقى ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن ، ويرجع عن دفعة الشهوة ونزغ الشيطان (٢).
وروى عن ابن عباس : جاءها في صورة شاب أبيض الوجه جعد الشعر مستوى الخلقة (٣) ، قال المفسرون : إنما تمثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على السماع لكلامه ، ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجملية الفائقة في الحسن (٤) ، ويقول الفخر الرازي إن في
__________________
(١) أنظر : سورة آل عمران : آية ٣٦ ، النساء : آية ١٦٠ ـ ١٦١.
(٢) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٠٥.
(٣) زاد المسير ٥ / ٢١٧.
(٤) تفسير البحر المحيط ٦ / ١٨٠ ، تفسير النسفي ٣ / ٣١.