هذه المعاني.
وفي الآية التّالية يخاطب المنكرين للقرآن والمعرضين عنه ، فيقول : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ)؟
صحيح أنّكم لم تألوا جهدا في مخالفتكم للحق وعدائه ، ووصلتم في المخالفة إلى حدّ الإفراط والإسراف ، إلّا أنّ رحمة الله سبحانه واسعة بحدّ لا تشكل هذه الأعمال المناوئة حاجزا في طريقها ، ونظر ننزل باستمرار هذا الكتاب السماوي الذي يوقظكم ، وآياته التي تبعث الحياة فيكم ، حتّى تهتزّ القلوب التي لها أدنى حظ من الاستعداد وتثوب إلى طريق الحقّ ، وهذا هو مقام رحمة الله العامّة ، أي : رحمانيته التي تشمل العدوّ ، والصديق ، والمؤمن والكافر.
جملة (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ) جاءت هنا بمعنى : أفنصرب عنكم ، لأنّ الراكب إذا أراد أن يحوّل دابّته إلى طريق آخر ، فإنّه يحوّله بضربه بالسوط أو بشيء آخر ، ولذلك فإنّ كلمة الضرب تستعمل في مثل هذه الموارد بدلا من الصرف (١).
«الصفح» في الأصل بمعنى جانب الشيء وطرفه ، ويأتي أيضا بمعنى العرض والسعة ، وهو في الآية بالمعنى الأوّل ، أي : أنحول عنكم هذا القرآن الذي هو أساس التذكرة إلى جانب وطرف آخر؟
«المسرف» من الإسراف ، وهو تجاوز الحدّ ، إشارة إلى أنّ المشركين وأعداء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يقفوا عند حدّ في خلافهم وعدائهم مطلقا.
ثمّ يقول في عبارة قصيرة كشاهد على ما قيل ، وتسلية لخاطر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وتهديدا للمنكرين المعاندين : (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).
إنّ هذه المخالفات وأنواع السخرية لم تكن لتمنع لطف الله ورحمته أبدا ، فإنّها فيض متواصل من الأزل إلى الأبد ، ووجود يعمّ عطاؤه كلّ العباد ، بل إنّه سبحانه قد
__________________
(١) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.